يتحول الدور الفرنسي المستجد في لبنان إلى عامل تجاذب داخلي بين واضع له في خانة تعزيز دور حزب الله، ومرحّب به لأنها المرة الاولى التي يتم فيها توجيه رسائل واضحة في شأن فساد الطبقة الحاكمة في لغة غير ديبلوماسية، ومتجاوب معه «على القطعة» وبحذر، في انتظار جلاء الموقف الاميركي من هذا التدخل.يمكن للبعض أن ينتقد هذا الحنين الفرنسي الى المنطقة، خصوصاً أنه محلياً يتزامن مع إعلان دولة لبنان الكبير، لكن هذه التغطية السياسية والاعلامية الفرنسية الواسعة للبنان، لا بد من التعاطي معها بجدية، لأنها سبقت انفجار المرفأ، رغم أنه أسهم في إذكاء المشاعر الانسانية والمبادرات السياسية الفرنسية على السواء. لكن تطور هذا الدور المستجد يحكمه اتجاهان، لبناني داخلي وإقليمي – متوسطي.
في البعد الاقليمي، يمثل وضع المتوسط ودوله والتوتر الذي بدأ يتسرب اليه، هاجساً فرنسياً دائماً. ليست المرة الاولى التي تحاول فيها فرنسا إيجاد صيغ متوسطية حوارية سياسية واقتصادية، أو تضع عينيها على هذه المنطقة انطلاقاً من مصالح الدول الاوروبية المتوسطية، ورغبتها في تعزيز حضورها في المنطقة. فلبنان الخاضع لتأثيرات إيرانية سعودية، فضلاً عن العامل الإسرائيلي، أضيف إليه بروز مؤشرات عن تأثيرات تركية تتزامن مع تصعيد تركيا لدورها في المتوسط. عين أوروبا على تركيا، التي لم تعزز وضعيتها في سوريا والعراق ولم تتمكن من تحقيق طموحاتها، فذهبت في اتجاه أوروبا لابتزازها عبر تصعيد مع اليونان وقبرص، ومحاولة إيجاد دور فاعل لها في لبنان. الدور التركي يستفزّ الاوروبيين، وإذا كانت ألمانيا أو بريطانيا اللتان صنّفتا حزب الله منظمة إرهابية، غير معنيتين مباشرة بالوضع اللبناني، إلا أنهما حريصتان على إبعاد الدور التركي عن أوروبا. وهذا الأمر يتلاقى مع مصلحة فرنسا في النفاذ عبر لبنان والمتوسط، إلى محاولة الحد من «الهجمة التركية» المتوسطية، والتي لا تزال خجولة في لبنان. في هذه النقطة، يبرز دور إيطاليا وفرنسا لعلاقاتهما المباشرة بالمتوسط، وبالدخول الى لبنان على مستويين مختلفين. وسرعة مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وتحركه على خطين، ولقاؤه حزب الله، علماً بأن فرنسا لم تقف مع المانيا وبريطانيا في موقفهما المتشدد منه، سمحت له بتحقيق اختراق، في وقت كان وصل فيه أداء المسؤولين اللبنانيين الى ذروة السوء.
وهنا البعد المحلي للتحرك الفرنسي. بالنسبة الى أوساط لبنانية وفرنسية، فإن العهد وحزب الله كانا وصلا الى طريق مسدود في تحقيق خرق في الأزمة الداخلية. صحيح أن الحزب لديه قنواته الخاصة، لكن مصلحته لا تقتضي أيضاً الانهيار التام، ولا سيما مع ارتفاع الاصوات المعترضة عليه، وتراجع شعبية العهد الذي كان يؤمّن له غطاءً مسيحياً، وتضعضع الحالة السنية. جاء الدور الفرنسي ليحقق اختراقاً في هذه الجو الذي كان يعيش حالة تطبيع قائمة على علاقة حذرة بين الطرفين. الاختراق الفرنسي، يحاول الإفادة من رغبة الحزب في تمرير مرحلة الانتخابات الاميركية في أفضل ظرف ممكن، كي يستعيد أنفاسه، خصوصاً أن الانهيار المالي والاقتصادي شامل ولا يخص بيئة بذاتها. وهذا المجال له عناية خاصة في الأجندة الفرنسية، الامر الذي سمح لأطراف النزاع الداخلي بالتقدم في مجال الاتفاق على حكومة جديدة. الا أن إنعاش العهد وحزب الله، يتطلب مبادرة سريعة وحكومة أسرع، وإلا فسترتد المبادرة على أصحابها والموافقين عليها. في موازاة هذا الخرق، ثبت الفرنسيون علاقتهم بالاطراف السنّة على قاعدتين؛ الخط السنّي الرئيسي المتمثل في الرئيس سعد الحريري ومن يقف معه، مقرونة بسلسلة ملاحظات تحمّله أيضاً مسؤولية سنوات طويلة من الفساد والانهيار المالي، وعلى خط محاولة كبح التمدد التركي عبر أطراف سنّة آخرين ومن معارضي الحريري، وهي مسؤولية ستقع أيضاً على عاتق الحريري نفسه.
الوحول اللبنانية قادرة على إغراق ماكرون... كما أغرقت قبله كثيراً من الوفود العربية والغربية


في المقابل، هناك عبرة تتمثل في تراجع دور الموارنة، في احتفال مئوية لبنان الكبير، كما الدروز الذين مثّلوا حينها معهم رافعته. لقاء رئيس الجمهورية هو لقاء بروتوكولي، بالمعنى الحرفي، لأن التفاوض الحكومي الاساسي جرى عبر فرنسا مع طرفين هما حزب الله والحريري. ليست المرة الأولى التي تتبنى فيها فرنسا لائحة أسماء، الاولى جرت رئاسياً مع البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير، لكنها انتهت الى فشل ذريع، وأدت الى إحباط صفير من الفرنسيين وانكفائه، وهو الذي لم يضع اللائحة بعد رفض طويل إلا بضغط من باريس. اليوم نجح ماكرون في مهمة الوسيط بين الحريري والعهد، لكن الاسم الذي اختير هو الذي وافق عليه حزب الله، قبل أن يوافق عليه العهد. وهو الذي حظي بموافقة الحريري ورؤساء الحكومات السابقين، وكل لأسباب مختلفة، قبل أن يصل الى بعبدا. بهذا المعنى كان دور الموارنة أقرب الى المتفرج، لأن التسمية سنية والموافقة شيعية، في حين أن فرنسا التي طالما اتُهم الموارنة بأنها «الأم الحنون» لهم، غابوا عن المشهد المؤثر فعلياً في القرار. ما يحاول التيار الوطني الحر الإيحاء به، أنه لا يزال يملك كلمة السر، لم يعد مقنعاً، خصوصاً في ظل التلويح بالعقوبات الاميركية. ومراكز الثقل المارونية السياسية الاخرى، كما الكنيسة، لا تزال متأخرة في اللحاق بدور مراكز الثقل الاخرى وفعاليتها. أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي يتمتع بعلاقة تاريخية ثابتة مع الفرنسيين، فقد حافظ على بعض من حرية الحركة، لكنه مع الموارنة، بدوا في مئوية لبنان الكبير أقرب الى الشهود منهم الى اللاعبين الاساسيين، وقد تراجع دورهم وتأثيرهم.
كل ذلك يضع الفرنسيين، الذين دخلوا في مغامرة كبيرة، أمام تحدّ سياسي واقتصادي، خصوصاً في ظل استمرار التصلب السعودي في انتظار جلاء أوضح للاتجاه الأميركي، علماً بأن الوحول اللبنانية كثيرة، وقادرة على إغراق ماكرون كما أغرقت قبله كثيراً من الوفود العربية والغربية، لأن الانهيار الاقتصادي والمالي يحتاج الى أكثر من مجرد استبدال حاكم مصرف لبنان بكل السيئات التي رماها في وجه اللبنانيين، وتجذر أساليبه في القطاع المصرفي. والفساد المعشّش في مفاصل الادارة بفضل التعيينات والمحاصصة بين القوى السياسية نفسها التي تؤيد ماكرون في مكافحة الفساد، لن يفرمل بين يوم وآخر ، وفرنسا غير قادرة على تحويل هؤلاء الى قديسين بعصا سحرية. وأي انهيار مقبل ستلقى تبعاته، ولن تنفع النيات الحسنة حينها في إنقاذ صورتها أو إنقاذ لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا