يتصرّف المتظاهرون حتى الآن بأخلاق ولياقة لا يستحقّها الـ«عرصات». فهم رغم امتلاكهم القنابل اليدوية والمولوتوف، فقد وجّهوها حصراً نحو واجهات مصارف خالية من الناس (ومن أموالهم) احتجاجاً وتحذيراً. لكنهم مع ذلك ووجهوا بالعنف والقتل بسلاح الدولة وزعران الأحزاب حمايةً لمنظومة مُفلِسة، وهنا وضع أحزاب السلطة يدهم بيد أحزاب المعارضة واعترفوا بأن لبنان مفلس، وزحفوا مطأطئي الرؤوس لتسوّل الفتات من صندوق الاستعمار الدولي. لكن هذا الإفلاس المعلَن لم يمنع تناطح مرشّحَي رئاسة الجمهورية التي قد لا تكون موجودة بعد ثلاث سنوات، أو تناتش أخوَين لإرث بائدٍ منذ زمن.
البنوك أفلست، وأصحابها حين يدركون ذلك يتحوّل الإنكار إلى غضب وهي أيضاً مرحلة من مراحل التأقلم مع الخسارة. هم يدركون أنهم حتّى لو استحوذوا على ودائعنا كافة، والـ«نا» هنا تشير إلى أكثر من تسعين في المئة من الشعب، فهذا لن يكفي لتغطية ولو جزء صغير من خسائرهم، وإجراءاتُهم المذلة ما هي إلّا انتقام من صغار المودعين لأن خسائرنا صغيرة وقابلة للتعويض، أمّا خسائرهم فعابرة للأجيال. عدا عن ذَلِّ زبائنهم، يروّجون عبر أدواتهم الإعلامية لتحمّل الدولة مسؤولية إنفاقها وبيع أصولها (أو ما تبقّى منها) أو نقل ملكيتها لهم، وهذه أيضاً لا تغطّي جزءاً صغيراً من الأموال الوهمية التي اعتادوا على رؤيتها مسجّلة بأسمائهم على شاشات حواسيب مصارفهم. حملةُ إنقاذ «البلد» (وهُم لا يرون في البلد إلا أنفسهم) التي يحلمون بها هي أشبه بقائمة هدايا يطلبونها من بابا نويل يرغبون باستملاكها لإفلاسها مستقبلاً كما دأبوا طوال تاريخهم الفاشل. اللافت في الموضوع هو أن صندوق النقد الدولي، الاستعماري بامتياز، هو الذي لن يؤمّن على هؤلاء الفشلة وسيفرض عليهم نقل ملكية مصارفهم المفلسة إلى «كبار المودعين» الذين ستتكشف هوياتهم حين يصبحون أصحاب المصارف بدلاً من المحتمين بسريتها المصرفية، ولن نفاجأ حين نكتشف أن جلّهم من أوسخ أنذال العالم من مجرمي حرب إلى تجار سلاح وطغاةٍ عربٍ وغُربٍ خبّأوا أموالهم في خزنة بيروت الآمنة. مبروك عليهم محافظهم الاستثمارية العديمة القيمة، فملكيتها تليق بهم.
تختلف الحكومة والمصرف المركزي على حجم الخسائر وطريقة احتسابها لكنّ كليهما لم يعترف أنه ضمن أصول هذه المصارف المفلسة عقارات تشبه قيمتها الفعلية قيمتها في دفاترهم تماماً كما تشبه الليرة سعر صرفها الرسمي. ومع ذلك هناك من يقترح في العلن بناء جزر في البحر لاختلاق أموالٍ في حين أن مطمر النورماندي شاهدٌ على حماسة وتهافت المستثمرين على الرمي بأموالهم في بحرنا. الإفلاس أكبر بكثير مما يصوّرونه وهذا يجعل مشهد الاقتتال على منصب موظف في الدولة مضحكاً للغاية، لا بل استدعى تنصيب محافظ لبيروت تدخّلاً إلهياً، رغم أنه من الأجدى أن يستتر الأوصياء على أراضي الله (ومدارسه ومستشفياته) لأنه قد يلاحظ صندوق النقد الدولي أنهم لم يدفعوا غرشاً ضريبياً منذ الأزل، وإن كان الصندوق يعشق شيئاً أكثر من بيع مقدّرات الشعوب فهو فرض الضرائب. والغرش لمن لم يعاصره هو كَسرُ القرش الذي يساوي واحداً في المئة من الليرة التي ليست بخير.
الاستعمار اليوم هو حكم الدولار الأميركي ويتجلّى محلياً بحكم المصرف
كل ما هو مطروح سيئٌ ولن ينفع في إنقاذ البلد، بل سيُفقر الشعب ويزيد من حدة الإفلاس، القياسي بكلّ المعايير. لكن اليأس لم يكن يوماً سبيلاً، فلننظر إلى نصف الكوب، أو بالأحرى نصف فنجان «الشفة»، الملآن. لبنانهم أفلس ولن ينقذه أحد. لن ترى الدولة اللبنانية دولاراً طازجاً من دون الخضوع التام لجزمة الاستعمار مع الاعتذار عن الإنجاز الوحيد في تاريخ هذا الوطن ومعاقبة «مرتكبيه» (بالمناسبة كل عيد مقاومة وتحرير وأنتم بخير). وكل ما يجري اليوم ما هو إلّا مناورات إضاعة وقت لا نملكه.
الاستعمار اليوم هو حكم الدولار الأميركي ويتجلّى محلياً بحكم المصرف، ولا تحرّر إلّا بالتخلّص التام من هذه المنظومة. الاستنجاد اليوم بصندوق النقد الدولي هو كطلب الاستغاثة من آرييل شارون في «عز دين» الاجتياح الصهيوني للبنان. طبعاً لن ينقذونا والمواجهة الطاحنة مع هذه المنظومة حتمية، فنمطُها يدمّرنا وأولوياتها غير أولوياتنا. علينا التحصّن والتسلح بما هو مناسب لهكذا صراع إذا ما أردنا التحرّر بعد التحرير. للأسف يطال الإفلاس أيضاً جزءاً كبيراً من المعارضة، فهناك من يعوّل على «صناديق الديمقراطية» التي إن نجحت لن تنتج إلّا مهزلة تشبه خوان غوايدو في فنزويلا، وحتى الطموح للعبور نحو دولةٍ لا يعوّل عليه إن لم تكن هذه الدولة تجاهر بعدائها لمن يهدّدنا بالحصار والجوع.
نحن اليوم بكلّ وضوح أمام ثنائية «السلة أو الذلة»، ومن يخوض معركة التحرّر لن يكون من يستجدي صندوق الذل ولا من يقبل بذِلّ صغار عملائه المحليين، بل ثوّار فعليون مستعدون لتغيير الواقع وعدم الخضوع له كقدر. فـ«علّي سور المصرف علّي، بكرا الثورة تشيل ما تخلّي».