استشفاء وطبابة، تعليم، إسكان، بطالة، غذاء يومي... هذه بعض من عناوين تظاهرات الأيام الأربعة الماضية التي ردّت عليها قوى السلطة من خلال تسريب ورقة اقتصادية «مُبدِعة» فيها المزيد من التقشف بالإضافة إلى وعود إطلاق مناقصات الكهرباء سريعاً، وبيع أصول الدولة (خصخصة)... أما «أدهى» الاقتراحات فهو الوعد بإقرار «قانون استعادة الأموال المنهوبة».ليس واضحاً ما إذا أدركت قوى السلطة ما يحصل في الشارع. التحرّكات أثارت في نفوس أركانها قلقاً واسعاً، إلا أن هذا القلق لم ينعكس على سلوكهم بعد. هم يعتبرون أن الاتفاق على «خريطة» طريق إقرار موازنة 2020 سيفتح الباب أمام استعادة ثقة الناس وإجبارهم على العودة إلى ائتمان السلطة على معيشتهم مجدداً. أما الورقة، فهي تبيع الوهم. إذ أن ما طرحه الحريري على شركائه في السلطة، أنه يجب إقرار موازنة 2020 من دون أي عجز، من خلال المزيد من التقشف في النفقات العامة، وتصفير حسابات خدمة الدين العام لعام 2020، وزيادة الضرائب على المصارف لسنة واحدة، وخصخصة جزء من قطاع الاتصالات. أما كيف يحصل هذا الأمر، فهو على الشكل الآتي:
- يريد رئيس الحكومة العمل على تحرير أموال «سيدر» من خلال مجموعة إجراءات، من بينها خصخصة قطاع الاتصالات. طرحت أكثر من صيغة تتعلق بالخصخصة الجزئية والخصخصة الكاملة، لكن لم يحسم أيهما يجب أن يسير بها مجلس الوزراء. إحدى الصيغ أن يتم بيع 40% من أصول الشركتين اللتين تملكهما الدولة («ميك 1»، أي «ألفا»؛ و«ميك2» أي «تاتش»). تقديرات فريق الحريري أن البيع سيؤمن 3 مليارات دولار كافية لتأمين خدمة الدين العام بالعملة الأجنبية لعام 2020، في مقابل تقديرات أخرى تشير إلى أن حاصلات البيع ستبلغ 1.5 مليار دولار، أي نصف الاستحقاقات المترتبة على لبنان لعام 2020.
- وبما أن قيمة خدمة الدين بالعملات الأجنبية تصل إلى 4.5 مليارات دولار في عام 2020، فإنه يترتّب تأمين مبلغ إضافي بعد احتساب قيمة حاصل الخصخصة، من خلال زيادة ضريبة الأرباح على المصارف من 17% إلى 34% ما يحصّل نحو 450 مليون دولار إضافية.
- كذلك سيتم بيع المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، بالإضافة إلى بيع قسم من بعض المؤسسات التي تملكها الدولة مثل ميدل إيست وسواها لتأمين المبلغ الباقي من الاستحقاقات بالعملات الأجنبية.
- اكتتاب المصارف بسندات خزينة بقيمة تصل إلى نحو 5 آلاف مليار ليرة، بفائدة قدرها 0.5 في المئة، على أن يتولى مصرف لبنان تأمين نحو 4 آلاف مليار ليرة لخفض خدمة الدين العام.
- تحرير أموال «سيدر» يتطلب أيضاً إجراءات تقشّفية، أي ان يتم خفض النفقات الجارية. ولذا، سيتم خفض 20% من قيمة هذه النفقات ما يؤمن نحو 800 مليار ليرة. وهذا الأمر يتزامن مع تجميد النفقات الاستثمارية والتجهيزات في المؤسسات العامة.
- ومن أجل امتصاص نقمة الشارع، سيتم خفض رواتب الوزراء والنواب بنسبة 50%. هذه الخطوة هي رمزية وهي لا تؤمن سوى 20 مليار ليرة لن يكون لها تاثير واسع في الموازنة.
- خفض تعويضات نهاية الخدمة للعسكريين لمدّة ثلاث سنوات.
- إقرار مشروع قانون القرض من الصندوق العربي بقيمة 160 مليون دولار لمنح المؤسسة العامة للإسكان القدرة على إعادة العمل بمنح القروض السكنية.
- إطلاق مناقصات الكهرباء خلال شهر واحد.
- إقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة.
هذه أبرز البنود التي عرضها رئيس الحكومة على شركائه. ويعتقد الحريري وقوى السلطة أن هذه الإجراءات تؤمن إقرار موازنة 2020 بصفر خدمة دين عام، وصفر عجز. وبالتالي يكون هذا هو «كبش الفداء» الذي سيمتصّ غضب الشارع ويشفي غليل الفقراء والمحرومين.
في الواقع، ليست هناك ثقة بأن هذه القوى ستنفذ ما تعد به، وهي ليست في وارد استعادة الأموال المنهوبة بصفتها «الناهب» الذي استفاق ضميره، بل تحاول خداع الناس وإقناعهم بأنها ستبيع رخصتي الخلوي وبعض أملاك الدولة في أسوأ ظرف للبيع وبأبخس الأسعار، ما يثير الكثير من الشكوك بأنها تمارس لعبة الفساد والهدر بقناع جديد.
لكن السؤال الأكثر حراجة التي ستواجهه قوى السلطة، هو أنه إذا كانت ستمارس المزيد من التقشّف، فبماذا تعد اللبنانيين؟ هي تعدهم بمزيد من الانكماش الاقتصادي بما يعنيه ذلك من فقر إضافي وبطالة وتفكيك لما تبقى من شبكات الأمان الاجتماعي، وستضرب القطاع الخاص وستتسبب بمزيد من صرف العمال والتهافت على سحب تعويضات نهاية الخدمة... كل هذا الأمر ستقوم به السلطة خلال سنة واحدة. أما في ما بعد، اي في عام 2021، فالخطوات غامضة ومبهمة. وكل هذا الأمر لا يعني أن مشكلة لبنان ستحلّ، فالحديث هنا ينحصر بموازنة 2020، والحاجة للدولارات لتغطية الاستيراد ليست ضمن هذه الخطة، بل قد يتعلق الأمر بوعود من دول أجنبية لديها مآرب سياسية.