«كل العطور العربيّة لن تقوى على غسل هاتين اليدين»(ليدي ماكبث، شكسبير)

■ ■ ■


الذين يظنّون أن المشكلة «قانونيّة» فقط مع زياد دويري، يخطئون طبعاً. هؤلاء «انتصروا» (موقتاً؟) أمام الكاميرات، وفي الإعلام الذي بدا بعضه للأسف متواطئاً ومنصاعاً وغوغائيّاً، يتأرجح بين حقد وبروباغندا، بين عمى وبلاهة… فيما بدا بعضه الآخر مهنيّاً ونقديّاً، يمارس دوره في التدقيق والمساءلة، ويحترم عقول الناس والقواعد الديمقراطيّة.

لكن بالإجمال، فإن اليوم اللبناني الطويل الذي بدأ منذ ليلة الأحد، بعد سحب دويري من «الأمن العام»، وتفشّى على المواقع الاجتماعيّة، ضجيجاً وقعقعة في كل الاتجاهات، قبل أن ينتقل إلى الشاشات والمواقع الاخباريّة، بلغ ذروته أمام المحكمة العسكريّة، حيث وقف دويري ومحاميه وأمّه ليلعبوا مشهد «الفينال» البطولي. يوم أمس، سيبقى في الأذهان بصفته اليوم الوطني للكذب والفجور.
خلافاً لـ«مخاوف» الجوقة الليبرالية المتضامنة مع «سينمائي مستدعى إلى المحكمة العسكريّة»، فإن السيناريو كان متوقّعاً ومدروساً، برعاية سياسيّة أكيدة، كي يفضي إلى النهاية السعيدة: إخلاء سبيل زياد دويري من دون توجيه أي تهمة إليه، أي تبييض سجلّه من أدران الإقامة أشهراً في كيان العدو، حيث صوّر فيلماً كاملاً يؤنسن القاتل، فيلماً «إسرائيلياً» (إنتاجاً وتمثيلاً وتنفيذاً). هكذا انتصر «بطل الحريّة»، مرّة جديدة، على «طواغيت الظلام، وأعداء الفكر والثقافة»! هل هناك من كان يتوقّع من النائب العام العسكري صقر صقر أن يحتجزه مثلاً، مثل الضباط الأربعة؟ والله، لكان وزير التطبيع الثقافي، المنخرط ضمن طاقم فيلم دويري الجديد كمسؤول علاقات عامة، سيعلن إضراباً عن الطعام، أو يشكو الريّس لدولة الرئيس، أو يحرق نفسه حيّاً أمام باب المحكمة. ذلك أن «العظماء أيها الشعب البجم، كُرّموا في الخارج، وعلينا أن أن نعاملهم باحترام في بلادهم». حاضر! تغريدات معاليكم أوامر! و«عظماؤنا» هؤلاء نرسلهم إلى الأوسكار أيضاً، ليخبروا العالم كيف أن الفلسطينيين ذبحوا «المسيحيين» الآمنين في الدامور. يبشرنا دويري بأن فيلمه الجديد هو عن «المصالحة». هذا الصبي مدهش في قدرته على التلفيق وتزوير الوقائع. «قضية رقم 23» (23 هو بالمصادفة عدد الأيام التي تفصل بين انتخاب بشير الجميّل في ظلّ الدبابة الاسرائيليّة وإعدامه)، فيلم عن المصالحة بقدر ما كان فيلمه السابق مؤيّداً لـ«القضيّة الفلسطينية»، وبقدر ما قضاؤنا مستقلّ، وبقدر ما يليق بالثقافة اللبنانيّة أن يكون لها وزير مثل الدكتور غطاس خوري. أي: البتّة!
لقد أمطرنا دويري بوابل من الأكاذيب والأضاليل، لكي يتفادى الاعتراف بجريمته الاسرائيليّة. فلو اعترف بها، وتراجع عنها، فسيكلّفه الأمر ثمناً باهظاً هو فقدان سبل تمويل أفلامه المقبلة و«إشعاعها» العالمي. يقول محاميه: «القضيّة تعود الى 2012، ولولا تحريكها من قبل أشخاص مغرضين، لديهم حقد شخصي على دويري وغيرة من نجاحاته العالميّة، لما كانت تحرّكت القضيّة». كيف ترد على هذا العبقري؟ ويمضي المحامي (ما اسمه على فكرة؟)، وقد بات ناقداً سينمائيّاً: «الصدمة ضد الإسرائيليين، ومع القضيّة الفلسطينية». اكذب، اكذب… لا بد أن يعلق شيء. الصدمة فيلم تطبيعي، فيلم إسرائيلي بامتياز. من يقُل عكس ذلك، أمّيّ، أو أعمى، أو نصّاب! شالوم دويري شالوم.
أم زياد («المناضلة البعثيّة» التي زجرها زياد مباشرة على الهواء)، تجزم بأن ابنها البار حين ذهب إلى إسرائيل لم تكن لديه «نية جرميّة». كانت مهمة إنسانيّة سامية طبعاً. ويقول دويري إنّه أبلغ مخابرات الجيش وقتذاك بإقامته المديدة في تل أبيب، «كي لا يحسبوه جاسوساً». الجواسيس كثر يا حبيب الماما، لا أحد يحتاجك جاسوساً. مهمّتك لم تكن، ولن تكون، التجسّس العسكري، بل كسر التحصينات الثقافيّة والاستراتيجيّة بيننا وبين العدو الذي نخوض معه صراعاً كيانيّاً. مهمّتك أنسنة قاتلنا، والتقليل من هول الاحتلال وسرقة الأرض واغتصاب الحقوق، ومحو مئات آلاف الشهداء وملايين اللاجئين… وطمس تلك المجزرة العظيمة المستمرّة منذ 1948، وإعفاء دولة الاحتلال، وتحويلها شريكاً. لقد اختار دويري أن يعيش شاهد زور على أرض المجزرة، ببركة مرتكبيها وترحيبهم ورعايتهم. هذا هو بامتياز التطبيع الثقافي مع العدو الذي لا يُبتّ في المحكمة فحسب. وتلك جناية دويري على نفسه، وعلى الثقافة اللبنانية. ما ارتكبه أخطر بكثير من التجسّس لمصلحة العدو. فهل فعل كل ذلك لأنّه «رضع حب فلسطين في بيته»؟ كما ردّد أمس، ويردّد منذ فيلمه الاسرائيلي… نحمد الله أنّه لم ينشأ في كنف أنطوان لحد! ماذا كان سيفعل؟ أما عشرات الأحاديث التي أدلى بها إلى إعلام العدو، والكلام الفظيع الذي قاله، فهذه أيضاً شطبها القاضي صقر بتقادم الزمن. لكن من يمحو وصمة العار التي ستلاحق دويري أينما حلّ؟ هل يكفي نعيق شهود الزور والمرتزقة لتزوير «الخيانة» وتحويلها «معركة حريات». «قضيّة دويري» ليست مسألة قانونيّة فقط، بل مسألة أخلاقيّة وفكرية، سياسيّة ووطنيّة. إنّها ثقافة الخيانة، وخيانة المثقّف.
إذا كان ما اقترفه دويري قبل سبع سنوات ليس، في نظر القانون، أكثر من «جنحة» امّحت بـ«مرور زمن ثلاثي»، فإن تجربته الإسرائيلية (التي سيكون لها تتمة بالتأكيد بأشكال مختلفة)، هي في نظر التاريخ جريمة عظمى! فيلمه الجديد الذي يخيّم عليه طيف «الشهيد» بشير الجميّل وتظلله هالة «القديس» سمير جعجع، يذهب في الاتجاه الاسرائيلي نفسه. الفنان حرّ في مضمون عمله، لكننا نسوق المثل للتدليل على أن زياد دويري الذي أقام وعمل في تل أبيب ويدافع عن تلك التجربة، هو نفسه مخرج الفيلم الجديد الذي يعيد الاعتبار إلى الرواية الانعزالية للحرب الأهليّة. ثم يقول للإعلام الذي يحاول أن يعمّق الطرح قليلاً: «حاسبني كفنان لا كسياسي» (!) يدّعي دويري أنّه صنع فيلماً عن «فهم الطرف الآخر» و«المصالحة»… لكنّه غير مستعد لمصالحة شعبه، والاعتذار عن جريمته الإسرائيليّة! إن التواطؤات السياسيّة والقضائيّة والاعلاميّة والفايسبوكيّة التي شهدناها أمس، تكرّس ما يمكن تسميته بـ«سابقة زياد دويري». من الآن فصاعداً، بفضلكم أيّها السادة المؤتمنون على كرامتنا وسيادتنا ودستورنا ومصلحتنا الوطنيّة، باتت إسرائيل خياراً بين خيارات، ووجهة نظر. دولة جوار، يمكن أن نقيم فيها، ونصوّر فيها فيلماً من دون أن نحاسَب. ترى ما الذي سيضيفه اليوم زياد دويري في افتتاح فيلمه؟ لا شك في أنّه سيواجه الجمهور بزهو الانتصار. لكنه انتصار موقت. فكثيرون في لبنان لن يقبلوا باستمرار هذه الحالة الشاذة.