غزة | أظهرت تسعة أشهر إلا قليلاً من الحرب على قطاع غزة، أن الضغط بالتجويع والحرمان هو أحد الأسلحة التي يستخدمها جيش العدو، على طريق محاولة الإخضاع وكيّ الوعي الجمعي للسكان في محاور القتال. لكنّ الجديد الذي حملته الأسابيع التي شهدت بدء العملية البرية في مدينة رفح جنوبي القطاع، والذي تزامن مع تعطيل عمل المعابر هناك، هو استخدام المساعدات الداخلة من معبري كرم أبو سالم الذي يسيطر عليه جيش الاحتلال، وبوابة صلاح الدين التي تربط غزة بشبه جزيرة سيناء، كوسيلة للإلهاء وصناعة مضمون يحشو به المسؤولون الأميركيون والغربيون إحاطاتهم الإعلامية، خصوصاً بعد الإعلان بشكل رسمي عن فشل مشروع «الرصيف البحري العائم» المحاذي لموقع «نتساريم» الذي يقسم القطاع إلى جزءين، والذي أقامه الأميركيون. والمشروع المذكور، الذي كثُرت التكهنات حول خطورته وأهدافه، لم ينجح طوال الأيام العشرة التي عمل فيها منذ الإعلان عن بدء تشغيله قبل أكثر من 40 يوماً، في إدخال ما يمكن تمريره في يوم واحد من أيّ من المعابر البرية الحدودية. وفي تصريحات وزارة الخارجية الأميركية والمسؤولين الأوروبيين، تحضر مشكلة المساعدات على أنها أكبر أزمات القطاع، فيما تغيب أزمة مليون ونصف مليون إنسان يعيشون بلا مأوى، تحت الشمس الحارقة، كما تغيب مشكلات القطاع الصحي وكل الخدمات الحيوية. والأهم، أن البحث التفصيلي عن آليات إدخال المساعدات، والتي اختلقت إسرائيل مشكلتها، أصبح الغطاء المناسب الذي يختبئ خلفه الجميع لمداراة العجز، أو حدود السقف المتاح لتقديم موقف متقدّم يتعلق بضرورة وقف الحرب، والذي يسمح بحل كل الأزمات والإشكاليات القائمة.ولعل آخر التصريحات الإشكالية المثيرة في هذا السياق، هو ما أعلنه جيش الاحتلال، أول من أمس، عن أنه سيتكفّل بنفسه بمهمة توزيع المساعدات، وهو ما يحيطه الكثير من اللاواقعية؛ إذ ليس مفهوماً كيف سيوزّع المساعدات، من دون إطار مدني يتواصل معه. كما أن الجيش الإسرائيلي كان قد أعلن عن هدنة تكتيكية في منطقة عبور شاحنات المساعدات، من السابعة صباحاً وحتى السابعة مساء، غير أنه قصف في مساء اليوم ذاته، عدداً من شاحنات البضائع التجارية التي عبرت من «مسار الهدنة»، وهي في طريقها إلى المناطق الآمنة.
والواقع أن المشكلة الإسرائيلية الحالية هي النظام أو الآلية التي تُوزَّع بها المساعدات في شمال القطاع وجنوبه، إذ يزعم الاحتلال أن عدم وجود بديل فاعل محميّ بقوة أمنية، يعني بالضرورة أن حركة «حماس»، وإن بشكل غير معلن، هي التي تتولى تنظيم آلية توزيع المساعدات. واستمرار الأمر على هذا النحو، إذعان واعتراف بفشل واحد من أهم أهداف الحرب، وهو تقويض قدرات «حماس» الحكومية. كما أن عدم إدخالها بشكل مطلق، يساهم في زيادة منسوب الإدانات والاتهامات للعدو بالتجويع، في المحافل الدولية وأوساط حركات التضامن. وعليه، خلصت إسرائيل إلى الحل الحالي القائم، أي وضع النازحين في شمال القطاع وجنوبه، في مساحة رمادية بين التجويع المطلق، وإدخال المساعدات النسبي، حيث لا مجاعة قاسية، ولا أمن غذائياً؛ فيُحرم الأهالي في شمال القطاع مثلاً، من كل أنواع الخضرو والفواكه واللحوم والبقوليات والوقود اللازم لتشغيل السيارات والأدوية والمعدات الصحية، ويُسمح فقط بدخول كميات مضبوطة من الطرود الغذائية التي تنحصر ببعض المعلّبات الرديئة، إلى جانب كميات وافرة من الطحين، أي إن الأهالي يتناولون «الخبز الحاف» من دون أي طعام فيه قيمة غذائية.
وفي غضون ذلك، تعطي إسرائيل مساحة للولايات المتحدة، لتلميع صورتها ودورها في هذه الحرب، إذ تظهر في دور الحريص الذي يؤدي دوراً محورياً ومباشراً في قضية المساعدات، بينما تُعلن في الوقت ذاته موافقتها على تزويد إسرائيل بالمزيد من شحنات الأسلحة. وهكذا، تتكامل مسرحية التجويع المضبوط والإلهاء المحكم.