على رغم مبادرة نواكشوط، في كانون الأول الماضي، باعتبارها رئيسة مجموعة «منظمة المؤتمر الإسلامي» في الأمم المتحدة، إلى مطالبة الأخيرة بعقد جلسة طارئة لمناقشة الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وتفعيل القرار 377 الذي يمكّن المنظمة من التحرّك في حال عدم تحقُّق الإجماع داخل مجلس الأمن، غير أن توجُّه موريتانيا إلى توثيق علاقاتها مع الولايات المتحدة و»الناتو»، في إطار تعزيز دورها في كبح جماح التحوّلات التي يشهدها إقليم الساحل ومنطقة غرب أفريقيا عموماً، خلق تبايناً جليّاً بين الموقفَين الرسمي والشعبي في هذا البلد. وظَهر التعاطف الشعبي، منذ الساعات الأولى للحرب، في شكل احتجاجات داعمة للقضية الفلسطينية ومندّدة بالعدوان الصهيوني.
غزة، قضية شعبية موريتانية
تجسّد التضامن الشعبي الموريتاني مع الفلسطينيين، في تظاهرات أسبوعية وحملات مكثّفة للتبرُّع هدفت إلى مساعدة أهالي قطاع غزة، فيما تعاظم دور الأحزاب السياسية المعارضة في هذه الحملات، وسط مشاركة قبلية ونقابية ومهنيّة ووطنية فيها، وتشكيل جهة حملت اسم «الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني»، هدفها إرسال التبرعات التي تجمعها إلى منظمات الإغاثة المعنية في غزة. كذلك، عمل «المنتدى الإسلامي الموريتاني» على إيصال مساعداته مباشرة إلى سكان القطاع، بما يشمل توزيع مبالغ نقدية على نحو 300 أسرة فلسطينية (نيسان 2024)، وإقامة مراكز إيواء.
وإلى الاهتمام الشعبي الذي يحظى بمقبولية رسمية، يُتوقّع أن تكون الحرب على غزة وموقف موريتانيا منها، حاضرة ضمن أجندة مرشّحي الرئاسة في الانتخابات المرتقبة منتصف الشهر الجاري، والتي يخوضها نحو 10 مرشحين، على رأسهم الرئيس الحالي محمد الغزواني، ورئيس «حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية - تواصل» حمادي ولد سيد المختار، والمعارض بيرام اعبيد (الذي خسر السباق الانتخابي في 2019 أمام الغزواني). وفي ظلّ تصاعُد احتمالات فوز «تواصل» بالانتخابات، بدا موقف الأخير من الأزمة في غزة لافتاً، إذ دعا، في ختام الدورة العادية الأولى لمجلس شورى الحزب (7 كانون الثاني)، إلى الإهابة «بالجهد الوطني لنصرة قطاع غزة» واستمراره وتكثيفه «حتى يتوقّف العدوان الغاشم والإبادة الجماعية لأهلنا في غزة». وتعزّز هذا الاتجاه، في شباط، مع استقبال قادة الحزب وفداً من حركة «حماس»، برئاسة عضو مكتبها السياسي باسم نعيم، وعضوية ممثّل الحركة في موريتانيا محمد أبو صقر. ورأى «تواصل» أن هناك ضرورة لدعم «الأمّة» (الإسلامية) لأهل غزة في مرحلة ما بعد انتهاء العدوان الهمجي «الذي يشنه الكيان الصهيوني بدعم من أميركا وبعض الدول الغربية».
ومن شأن خطاب «تواصل» المتماهي مع خطاب المقاومة في غزة، حشد أصوات أكبر عدد ممكن من المعنيين الموريتانيين بالأزمة في القطاع، ولا سيما أن الحزب يقدّم خطاباً راديكالياً في الإصلاح السياسي، ويطرح أفكار إعادة النظر في الصلات مع الغرب.
تسهم توجهات نواكشوط الخارجية بالتقارب مع «الناتو» ودوله في جاذبية هذا البلد كوجهة للاستثمارات الطاقوية


نواكشوط في مدار التطبيع الإسرائيلي
على مدى العقود الأخيرة، جمعت موريتانيا والولايات المتحدة علاقات متميزة، ولا سيما في مجالَي التعاون الأمني والعسكري، عزّزتها خطوات نواكشوط في مسار تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، والتي لم تتوقّف حتى نهاية العام الماضي. وأفادت تقارير (مطلع تشرين الأول 2023) بوجود محادثات إسرائيلية - موريتانية في المسارَين الأمني والاستخباري، بوساطة إماراتية (ضمن مساعي أبو ظبي لإمرار صفقة تطبيع واسعة تشمل الصومال والنيجر وإندونيسيا وليبيا بغطاء أميركي)، جاءت استكمالاً لجهود ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، للدفع بالمسار نفسه منذ عام 2020.
ويبدو أن مسار التطبيع لم يتباطأ في ضوء اعتبارات نواكشوط الاستراتيجية والاقتصادية (المرتبطة بأجندة أبو ظبي والرياض بشكل رئيسيّ)، ودورها المركزي في جهود واشنطن «لمكافحة الإرهاب في أفريقيا»، وتصاعد الجهود الأميركية لمواجهة الاختراقات الروسية، وخصوصاً في إقليم الساحل. وقد دلّ على ذلك، تكثيف الجهود الأميركية، نهاية أيار الماضي، للارتقاء بعلاقات نواكشوط - «الناتو» إلى مستويات جديدة في أعقاب لقاء جمع نائب قائد الحلف الجنرال ميرسيا جيوانا، إلى وزير الدفاع الموريتاني حننه ولد سيدي (28 أيار)، وركّز خصوصاً على الشراكة الاستراتيجية بين الجانبَين، وتحديداً تعزيز القوات الموريتانية المشاركة في جهود الأطلسي لمواجهة الإرهاب، ومشاركة موريتانيا المرتقبة في قمة الحلف في تموز المقبل، والمكرّسة لقضايا جيرانه في الجنوب. وانضمّت موريتانيا إلى منتدى «شراكة حوار المتوسط» في الحلف، في عام 1995، والذي يضمّ الجزائر ومصر وإسرائيل والأردن والمغرب وتونس، في مؤشر إلى وجود مظلّة أميركية مهمّة للتطبيع.
كما تسعى نواكشوط إلى تنمية مواردها الطاقوية بالتعاون مع عدد من الشركات الكبرى، في مقدمتها «بريتش بتروليوم» التي دشنت، مطلع حزيران الجاري، عمليات استكشاف واسعة في حقل بحري موريتاني - سنغالي، يُتوقّع أن يصل إنتاجه اليومي إلى 500 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. وتسهم توجهات نواكشوط الخارجية تلك، في تقوية جاذبية هذا البلد كوجهة للاستثمارات الطاقوية الضخمة والمتعدّدة الجنسيات، ومن ثم تعزيز دوره في مساعي واشنطن إلى تعويض خسائرها في أفريقيا، وكذلك في السيناريو المرتقب للتطبيع العربي - الإسرائيلي.

خلاصة
كشفت حرب الإبادة الجارية في غزة عن هوية عربية - إسلامية أصيلة في الشعب الموريتاني الذي تجاوزت استجاباته للأزمة الحدود المألوفة حتى في دول «خط المواجهة». لكن توجّهات نظام الغزواني تشير إلى ارتباط أكبر بـ»الناتو» وبمسار التطبيع مع إسرائيل مستقبلاً، ولا سيما أنه بات ملفاً عضوياً في صلة نواكشوط بالرياض وأبو ظبي. وسيتكشّف عقب الانتخابات المرتقبة، من بين نتائج أخرى، وضع غزة في قلب السياسة الموريتانية ومراوحته بين دعم شعبي تام، ودينامية سياسة خارجية توازن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتشابكة، وتقارب ملف الحرب من زاوية الضرورات السياسية من قبيل رئاسة غزواني الحالية لـ»الاتحاد الأفريقي»، وقبلها للمجموعة الإسلامية في الأمم المتحدة.