جاءت انتخابات «اتّحاد الكتاب اللبنانيين» في سياق الجمود السياسي الذي ينسحب على منظومات البلد الاجتماعية والاقتصادية امتداداً إلى الثقافية. أفرزت الانتخابات التي جرت قبل أسبوعين، مجموعة من الكتّاب والمدوّنين أعلنَوا عن أنفسهم بأنهم المجلس الجديد للاتّحاد تحت اسم «لائحة النهوض الثقافي»، بعد مواجهة مع لائحة «الوحدة النقابية الوطنية» في الترشيح إلى انتخابات الهيئة الإدارية. المدقّق في بيانَي اللائحتين لا يجد فرقاً كبيراً بينهما في الشكل، نعني الكلام العام عن محبة لبنان والانتماء إليه وضرورة الارتقاء بالاتحاد وإيجاد مكان لائق به وتفعيل دوره بالتفاعل مع المفكرين والمثقفين ممن ليسوا أعضاء فيه بالضرورة، وهذا كله كلام جميل جداً، مع التنويه بنقطة مهمة جاءت في بيان «الوحدة النقابية» هي وعدها بالسير في مسألة تأمين الضمان الاجتماعي لأعضاء الاتحاد التي ناضل لأجلها رئيس الاتحاد المنتهية ولايته الياس زغيب. ارتأى أغلب الناخبين الذي شاركوا في الاقتراع أنّ لائحة «النهوض الثقافي» هي التي تمثلهم، ما يدفعنا إلى البحث في برنامج هذه اللائحة وما جاء في توجهاته، طالما أن اللائحة المقابلة خسرت المعركة. كانت المفاجأة أنّ ما اختاروه في ضوء برنامج اللائحة الفائزة، كان مُفجعاً، إذ جاء فيه التأكيد على الحضور الثقافي اللبناني في الداخل والخارج، أُنشئ مركز يليق بالاتحاد، بل مراكز له في المحافظات وصولاً إلى الكلام عن احتضان الطاقات الواعدة، وهذا كلّه كلام جميل لا يلزم أحداً من مطلقيه وناخبيهم، إذ ليس مرفقاً بتعهّدات واضحة أو بآلية لتطبيق هذا البرنامج.
عبد الحي مسلّم ـ «عكا الجزار» (1976 ـــ مؤسسة الشارقة للفنون)

من المفارقات العجيبة أنّ البرنامج يورد ما يأتي: «العمل الجادّ على أن يكون الاتحاد بمنزلة النقابة الثقافية (...) العمل الجاد على تنظيم الهيئة العامة...». كانت كلمة «الجادّ» استخفافاً بجهود هذا الاتّحاد لأنها تعني بالمباشر أنّ تاريخاً طويلاً من نضالاته كان غير جادّ ولا مثمر، فكل ما اجتهد فيه وبناه سهيل إدريس، وعفيف دمشقية، وأحمد أبو سعد، وروحي بعلبكي، وجوزف حرب، وغسان مطر، وسليمان تقي الدين حتى وجيه فانوس والياس زغيب... كل ذلك كان مجرد لعب ولهو وتمضية وقت! وعلى الخط الناظم لهذا المشروع «الثقافي»، فإنّ من يقرأه، سيظنّ حتماً أنه موجّه إلى جمهور يعيش في السويد أو فرنسا أو النروج أو فنلندا، حيث لا أثر لأيّ كلام أو حتى إشارة إلى الواقع الطائفي الاجتماعي الانقسامي الذي يجب على الكتّاب العمل على مواجهته بالموقف الأدبي الثقافي كحدّ أدنى وبالمُتاح حفظاً لماء وجه الأدب والثقافة والفكر. أوليست مهمة الكاتب/ المثقف في كل المجتمعات قيادة مجتمعه في مواجهة المرض الطائفي والفساد الإداري والاجتماعي الذي يضرب بلاده؟ نتحدث هنا عن الموقف بالقلم وهذا أضعف الإيمان، فأين ورد ذلك في البرنامج؟ ترتسم تساؤلات كثيرة حول مقاطعة الغالبية العظمى من أعضاء الاتّحاد للانتخابات، فمن أصل أكثر من 800 عضو على لوائح الشطب بعد إسقاط المتوفين، شارك في الانتخاب أقل ما 200 عضو، وهذا بحد ذاته يطرح مشكلة ميثاقية كبيرة، ويؤكد على مقاطعة واضحة لا ينفع معها التذرع بعدم أحقية عدد كبير بالانتخاب لعدم دفع اشتراكاتهم، فالقائلون بهذا هم أنفسهم اللائحة «الفائزة» التي ناقضت نفسها، إذ سلكَت طريق العُرف والعادة، فسكتت عن مخالفة واضحة وفاقعة لنص قانون الاتحاد الذي ينصّ على وجوب دفع الاشتراكات وتسليم اللوائح قبل شهر من موعد الانتخابات، وقبِلَت بتصويت من يحضر ويدفع الاشتراك توّاً في يوم وساعة الاقتراع مع ما في ذلك من تأثير على الناخبين على الطريقة اللبنانية المعروفة للجميع.
من زاوية الرؤية نفسها، ما كُتب في مشروع مجموعة «النهوض الثقافي» مسيء جداً من ألفِهِ إلى يائه لسمعة الاتحاد وللكتّاب في بلد مواجهة كلبنان ضد عدوٍ غاشم أقل واجباتنا أن نحاربه بالكلمة. من المأساويّ أننا لم نلمح كلمة واحدة عن الانتصار للقضايا الوطنية والقومية في برنامج عمل اللائحة الفائزة. وبعد تدقيق وتمحيص، لم نعثر على كلمة فلسطين ولا غزّة، ولا قدس، ولا جنوب، ولا تضحية، ولا دماء ولا شهداء، فأين كل ذلك في حسابات هذه الفئة؟ لا نزايد على أحد، إنما نستشكل بعمق ووعي هذا الانفصام عن واقعنا في صلب معركة مصيرية مع «إسرائيل» كياناً غاصباً لا حدود لساديته وإجرامه، ليس من الهيئة الجديدة فقط، بل، وهذا قمة التراجيديا، ممّن انتخبوا هذه اللائحة شركاء فِعليين في تبنّي توجّه مماثل يعتّم على قضايانا الوجودية والمصيرية التي نعيشها كل يوم. إنهم يعيشون خارج الجغرافيا والتاريخ، يقدمون مؤشراً خطيراً إلى مرض الحالة الثقافية اللبنانية، خلاصته أنّ كل ما قيل ونُشِر وكُتِب ودُفع ثمنه من تضحيات ودماء وشهداء في بلد مواجهة كلبنان منذ سنوات طويلة، هو خارج حسابات مثقفّيه وكتّابه. وها هم اليوم يؤكدون ما نقوله، نموذجاً فاقعاً لا شبهة فيه، مع اقتناعنا بأن بعض المبادئ أو الشعارات في هذا السياق قد تكون ذات حساسية لدى بعض اللبنانيين، لكن الأكيد المؤكد أنّه لا يختلف اثنان في لبنان على مبدأ استنكار ورفض ما ترتكبه «إسرائيل» في غزة وفلسطين ولبنان امتداداً حتى العمق العربي من حولنا، وحتمية مقاومته بأي أسلوب كان. وعلى هامش ما نقول، نمرّ سريعاً على ما قاله لنا الرئيس السابق للاتحاد ومستشار الأمين العام لـ «اتحاد الكتاب العرب»، الياس زغيب الذي أعلن استقالته نهائياً من عضوية الاتحاد بعد صدور نتائج الانتخابات، في احتجاجٍ على ما يراه محاولةً لإقصائه عبر التعتيم على منجزاته ومنجزات من سبقوه، ما لم يشر إليه برنامج اللائحة الجديدة، كقانون الضمان للمنتسبين، ومشروع تحويل الاتحاد إلى نقابة تعطي حماية للكاتب. إذ يرى أن معركة الانتخابات كانت كلّها طموحات شخصية وأن كثيرين تناولوه بالشخصي مع أنّ «هناك من سار بي مرشحاً توافقياً ولكن عُرقِل التوافق لسبب أو لآخر». لكنه لا يؤكد ugn شدّ العصب الطائفي لأن الفريقين المتخاصمين من مختلف الطوائف، كما يلفت إلى أنّ اقتراع 147 عضواً من أصل 850 على لوائح الشطب يمكن تسميتها مقاطعة. أما الأكاديمي في الجامعة اللبنانية ديزيريه سقّال فقد انسحب نهائياً أيضاً من الاتحاد، مؤكداً لنا حصول «زعبرة» وغش في انتخابات الاتحاد الأخيرة.
مَن يقرأ برنامج اللائحة الفائزة يظنّ أنه موجّه إلى جمهور يعيش في السويد أو فرنسا

ورأى أنّ مَن انتُخبوا بهذه الطريقة هم مجموعة أسماء جديدة صغيرة لواحدهم «كتابَان أو ثلاثة ليست ذات قيمة أدبية وفكرية إبداعية، بل إنّ بعضهم نحَلَ أو سرق موضوعاته من أدباء وشعراء كبار معروفين ونسبها إلى نفسه وهذا معروف وموثّق للجميع (نتحفظ على ذكر الأسماء التي ذكرها سقّال) في مقابل من لديه 100 كتاب». ويضيف سقّال: «أتكلم عن نفسي، هؤلاء لا يمثلونني، بل كيف لهؤلاء أن يمثلوا وجه لبنان الحقيقي وقاماته الكبيرة؟! أين هم من أدونيس وحاوي وإدريس وغيرهم؟». يؤكد سقال أن أناساً اتصلوا بكثير من الأعضاء وعرضوا عليهم دفع الاشتراكات شرط التصويت لهم، بل إنّ هناك من نظّم بطاقة له على باب غرفة الاقتراع لحظة الاقتراع لينتخب. كما أن لوائح الشطب سُلّمت قبل ليلة واحدة فقط من يوم الاقتراع، ما يتعارض مع قانون الاتحاد. وكان يُفترض وقف الانتخابات حتى حلّ كل هذه المشكلات ومواجهتها وهذا ما لم يحصل. إن ما أراده أعضاء «اتحاد الكتاب اللبنانيين» الذين شاركوا في هذه الانتخابات، مُرشّحين وناخبين على السواء، هو خيار رجعي بامتياز لا يؤكد عجزهم عن المواجهة الثقافية بالكلمة الحقّة فقط، بل، وهنا الخطورة، إرادتهم الواضحة في الابتعاد عن المبادئ الوطنية التي تحتلّ رأس أولوياتها مبدأ مقاومة الاحتلال وحيث لا يمكن لعاقل القبول بهكذا هيئات أو مجالس لأن ذلك يعني حتماً القبول والرضى والتسليم باتّحاد ارتضى أصحابه أن يكونوا على الحياد في صلب المعركة التي يستشهد فيها كل يوم مئات الأبرياء بين فلسطين ولبنان وسوريا. ويبقى لنا ما يجب قوله حتى لا تشوّه صورة الثقافة في لبنان، هو أنّ مَن انتُخبوا «سلقاً» على الطريقة اللبنانية يضعنا أمام خيارَين لا ثالث لهما: إما الاستسلام لأجندات تفتح الباب بالتدريج لثقافة التطبيع، وإمّا رفضهم لأنّ بقاءهم استمرار لحيثية الكاتب والمثقف المتخاذل فكراً وممارسة، والتاريخ لن يرحم.