الحاجة المتبادلة والتخادُم البيني لا يعنيان، بحال، أن العلاقات باتت ثابتة وغير قابلة للتغيير
قد يصحّ واحد من تلك التفسيرات، أو اثنان، وربّما أكثر، وربمّا جميعها، لكن الأكيد أن المحدِّد الرئيس في السياسة الخارجية الروسية راهناً، هو الحرب على أوكرانيا وكلّ ما يتّصل بها. ومن هنا، يمكن القول، إنه لا تَوجّه حالياً إلى قطْع العلاقات بين موسكو وتل أبيب، لكنّ الأُولى تريد حمْل الأخيرة على حسبان خطواتها جيّداً قبل اتّخاذها، فيما لإسرائيل مصالح متشعّبة مع روسيا، ستكون مضطرّة من أجلها إلى العمل على إيجاد تسوية ما، تسمح لها بفرملة موقفها العدائي بخصوص الملفّ الأوكراني، من دون الانزياح عن التموضع الغربي. وممّا يعزّز ذلك الاتّجاه هو أن روسيا نفسها تحتاج إلى إسرائيل، على أكثر من مستوى، أبرزها اهتمامها بإبقاء «الستاتيكو» الحالي في سوريا حتى لا يشغلها شيء عن معركتها في شمال أوروبا، وحرصها على إدامة المَنفذ الإسرائيلي لـ«التهرّب» من العقوبات، التي مهما تشدّدت تل أبيب في تطبيقها، فإن وجود الجالية الروسية في الكيان العبري يتيح لموسكو المناورة إزاءها. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن روسيا معنيّة بأن لا تشْريَ عداء أطراف ثالثة - غير كييف والغرب -، ومن بين هذه الأطراف، بطبيعة الحال، الجانب الإسرائيلي. ومع هذا، يمكن لمْس نوع من الجفاء بين الجانبَين، تمظْهر في امتناع موسكو عن تهنئة لابيد بتولّيه منصبه الجديد، أو إجراء اتّصال به من قِبَل الكرملين، علماً أن ذهاب الرجل بعيداً في انتقاد روسيا ورئيسها كان جزءاً من تقاسم الأدوار بينه وبين رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينيت. أمّا من ناحية إسرائيل، فإن الحاجة إلى روسيا متداخلة هي الأخرى، بدءاً من الساحة السورية التي يُعدّ أيّ تقييد لحرية المناورة العسكرية فيها إضراراً كبيراً واستراتيجياً بالأمن الإسرائيلي، وهو ما يمكن أن تُقدِم عليه موسكو في حال تمادي الدولة العبري في عدم مراعاة مصلحتها، فضلاً عن احتمال إقدامها على نقل تكنولوجيات عسكرية وأمنية وسيبرانية إلى جهات معادية لإسرائيل.
على أن الحاجة المتبادلة والتخادُم البيني لا يعنيان، بحال، أن العلاقات باتت ثابتة وغير قابلة للتغيير، وفقاً لتَغيّر الظروف وتبدّل المواقف والتموضعات والمصالح، التي تبدو سيّالة جدّاً في زمن المتغيّرات وتَشكّل الكتل والأحلاف الدولية، بل قد يجوز القول إن العلاقات تسير وفق سيناريو دقيق وحادّ، قد يتدحرج نحو الانفراط، وربّما هذا هو ما يحصل الآن، وإن كان من مصلحة الجانبَين تأجيل الانهيار ما أمكن. والجدير ذكره، هنا، أن تجاوزات «الوكالة اليهودية» في روسيا ليست الأولى من نوعها، بل سبقتها مخالفات عديدة كانت تتمّ في كلّ مرّة تسويتها بشكل أو بآخر. أمّا هذه المرّة، فقد رفعت موسكو فعْل «المحاسبة» إلى مستوى سياسي، بهدف تحصيل أثمان من الجانب الإسرائيلي، وتحديداً في ما يتّصل بالحرب على أوكرانيا. وإذا كان تحويل وزارة العدل ملفّ «اليهودية» إلى القضاء يعني أن قراراً صدر - مع وقْف التنفيذ مؤقّتاً - بإنهاء وجودها في روسيا، فإن ما بين صدور القرار وتنفيذه مسافة زمنية معتدّاً بها، تتيح للجانبَين تحسين أوضاعهما التفاوضية، واستكشاف المطلوب من كلّ منهما، وهو ما يفسّر إرسال إسرائيل وفداً متعدّد الأطراف، من وزارات ووكالة مختلفة، لإيجاد مخرجٍ ما لأزمة الوكالة. هنا، يَبرز حديث السفير الروسي في تل أبيب، عبر جلسات مغلقة مع سياسيين إسرائيليين، عن أن بلاده منزعجة من تولّي لابيد منصب رئاسة الحكومة، بالنظر إلى مواقفه المعادية لروسيا وبوتين. وبذلك، يكون القرار الروسي مرتبطاً بشخص واحد من السياسيين الإسرائيليين، وليس بالكيان نفسه الذي يبدو إلى الآن أن ثمّة مصلحة في الحفاظ على العلاقات معه. بتعبير آخر، يبدو الإجراء الروسي مُوجَّهاً إلى لابيد، بهدف إيصال رسالة «تحذير» و«تهديد» إلى كلّ المعنيين في هذه الأزمة، التي لا تبدو يدُ إسرائيل هي العليا فيها، حيث ستسعى ما أمكن إلى توفير ضمانات للجانب الروسي.
بالنتيجة، من المستبعد أن تتحوّل أزمة «الوكالة اليهودية» إلى مشكلة روسية - إسرائيلية عُضال، من شأنها أن تجرّ إلى خصومة بائنة أو عداوة، أو إلى إجراءات عقابية قاسية ضدّ تل أبيب، أقلّه في المدى المنظور. إلّا أن الأكيد، وأيّاً كان ما ستؤول إليه هذه الأزمة، أن ما بَعدها سيكون مكلِفاً لإسرائيل، ومن شأنه تقييد خياراتها لاحقاً أمام الروسي، وإضعاف قدرتها على اللعب على التناقضات والمناورة في ظلّ الاستقطاب الدولي الحادّ الحاصل حالياً.