بدت إسرائيل، في اليوم الذي أعقب عملية تل أبيب، مصدومة ومجروحة، وهي تترقّب المزيد من العمليات التي باتت تُثقل كاهل المستوطنين، وتدفعهم إلى التسمّر في المنازل خشية الآتي. يفقد هؤلاء، شيئاً فشيئاً، شعورهم بالأمن، وتتراجع ثقتهم بمسؤوليهم، فيما تَفقد المؤسّسة الأمنية، وتبعاً لها المؤسسة السياسية، الأدوات التي تكفل لها منع الهجمات. وفي المقابل، ينجح الفلسطينيون في الوصول إلى المدن الإسرائيلية، وجبْي أثمان من المحتلّين، علماً أن المنفّذين، سواءً أكانوا أفراداً أم جماعات صغيرة، لا يتلقّون توجيهات من أعلى، وهذا ما تصبّ تل أبيب اهتمامها عليه حالياً؛ كونه تحدّياً لا تنفع معه أيّ من الإجراءات العقابية الرادعة، التي طالما استخدمها الاحتلال في مواجهة الفلسطينيين. وبتعبير أدقّ، ليست لدى المنفّذين مراكز ثقل وتوجيه، تمنع عنهم التحفيز والمبادرة، في حال استهدافها. كما أنه ليست في حوزتهم أيّ إشارات تدلّ على هويّتهم، بما يمكّن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتالي من اعتقالهم أو تحييدهم مسبقاً. فالمنفّذون قادمون من غير ساحة جغرافية فلسطينية، سواءً من داخل الخطّ الأخضر أو من خارجه، ومنهم مَن كان معتقلاً في السابق على خلفيات أعمال مقاومة، وبعضهم تخلو سيرته من أيّ عمل مقاوم سابق، فيما آخر لديه خلفيات في الانتساب إلى فصائل فلسطينية مقاومة أو غيرها، وثالث ليس معروفاً ما إن كان متماهياً مع أيّ من الفصائل. كذلك، ثمّة من يحملون الجنسية الإسرائيلية، وآخرون قادمون من مدن الضفة المحتلة، وبذا تتساوى أجهزة الاحتلال، وأجهزة حلفائها في السلطة الفلسطينية، في الفشل.أمّا الدليل الوحيد المؤكّد إلى الآن، والمشترك بين المنفّذين، فهو أنهم فلسطينيون يدفعهم وجود الاحتلال وسياساته إلى القيام بما من شأنه الإضرار به، فيما نجاحهم يحفّز المزيد من الفلسطينيين على محاكاتهم. وهكذا، يتبلور مسار تُغذّي محطّاته بعضها بعضاً، بلا عوامل خارجية مُوجِّهة. المؤكّد كذلك أن هذه الموجة مغايرة لما سبقها، وتحديداً عمليات الدهس والطعن التي لا تنجم عنها نتائج عظيمة التأثير، كما هو حال إطلاق النار في شوارع المدن الإسرائيلية الرئيسة وساحاتها، والذي لا تقتصر آثاره على خسائر في الأرواح، بل تشمل تآكل الشعور بالأمن والقدرة على التحكّم والسيطرة. وبحسب التقارير الإسرائيلية، فإن أداء المنفّذين في العمليات الأخيرة ينمّ عن نوع من الاحترافية أو الإعداد المسبق الذي يفضي إلى نتائج مماثلة، وهو ما كانت تفقده عمليات الطعن الارتجالية السابقة. أيضاً، يبرز تركيز المنفّذين على المدن الإسرائيلية داخل الخطّ الأخضر، بعيداً عن الأراضي المحتلّة في القدس والضفة الغربية، أي على العمق الإسرائيلي الذي يُعدّ أكثر أمناً قياساً إلى غيره من الأماكن المحتلة، ومن دون تفريق بين مدينة وأخرى: بئر السبع (مختلطة)، بني باراك (حريدية)، تل أبيب (رمز الاستيطان والأسرلة)... أي أن كلّ الإسرائيليين، بمختلف توجّهاتهم، مستهدَفون.
تشير الهجمات الأخيرة إلى فقدان «السور والجدار» القدرة على ردع الفلسطينيين عن القيام بأفعال قاتلة


وتتمثّل المعضلة الإسرائيلية الحالية في كون الإجراءات العقابية الجماعية والفردية، التي يمكن تفعيلها في مواجهة الفلسطينيين، هي نفسها محلّ تحذير من قِبَل أجهزة العدو الأمنية، من أنها قد تكون عاملاً محفّزاً لمزيد من العمليات، فيما الارتداع عنها سيؤدّي بدوره إلى النتيجة نفسها. وفي هذا الإطار، سيكون من شأن أيّ تراجع عمّا يسمّيه العدو «إجراءات السيادة» على الأراضي المحتلّة، كما في حال منع أو تجميد وصول المستوطنين إلى الحرم القدسي من أجل الحيلولة دون أيّ مواجهات ستشكّل بذاتها دافعاً إلى هجمات جديدة، أن يولّد انطباعاً بأن الفعل الفلسطيني يدفع إسرائيل إلى «التنازل»، وها هنا تكمن المفارقة بالنسبة إلى دولة الاحتلال. وممّا يزيد المشهد تعقيداً هو أن هذه العمليات تأتي في ظلّ أزمة سياسية إسرائيلية، قد تفضي إلى تفكّك الائتلاف الحكومي، ما يعني عجزاً مضاعَفاً، ولا سيما في ظلّ تربّص المتخاصمين السياسيين بعضهم ببعض، لكسب نقاط لدى الجمهور العريض، وذلك عبر التركيز على الإخفاقات وتقاذف المسؤوليات عنها، ما يزيد بدوره من ثقل العمليات على الإسرائيليين.
ما الذي يعنيه كلّ ذلك؟ واضح أن العمليات تعيد الإسرائيليين عقدَين إلى الوراء، عندما كانت مدن الاحتلال هدفاً لعمليات استشهادية أدّت إلى قتل المئات منهم، الأمر الذي يعني أن عشرين عاماً من الإجراءات والتدابير السياسية والأمنية والعسكرية والتطبيعية التي استهدفت إحباط الفلسطينيين، باءت بالفشل، وفي المقدّمة منها «حملة السور الواقي» عام 2002، التي اجتيحت خلالها مدن الضفّة، وأقيم جدار فصل منَع عن الفلسطينيين اجتياز الأراضي المحتلة عام 1967 إلى أراضي عام 1948، إذ تشير الهجمات الأخيرة إلى فقدان «السور والجدار» القدرة على ردع الفلسطينيين عن القيام بأفعال قاتلة ومؤثّرة، سواءً أكانوا من الضفة نفسها، أم مِمّن يحملون الجنسية الإسرائيلية داخل الخطّ الأخضر، فضلاً عن فشلهما في الفصل بين الفلسطينيين وتطلّعاتهم، بحيث تكون لكلّ ساحة هوية خاصة بها، وتلك واحدة من أهمّ معضلات الاحتلال. كذلك، من شأن العمليات الفدائية إحباط أهداف المسار التطبيعي الذي بدأته عدد من الدول العربية مع إسرائيل، عبر تأكيدها أن القضية الفلسطينية لا تموت، مهما كانت الظروف القاهرة والمتكالبة عليها.
من جهة أخرى، من شأن الهجمات الفلسطينية، بهذا القدر أو ذاك، أن تُثقل كاهل صانع القرار في تل أبيب، في ظرف حسّاس جدّاً ومشبَع بالأزمات الداخلية، بما يزيد من حراجة اتّخاذ المواقف على أكثر من صعيد، طلباً لتحسين وضعيّة أو تغطيةً على إخفاق. وتحضر هنا المواجهة مع إيران بمستوياتها وساحاتها وتهديداتها كافة، وكذلك الساحة السورية التي بات يميّزها، بعد الردود الإيرانية الأخيرة، انكفاء إسرائيلي لافت، وأيضاً الساحة اللبنانية حيث الحذر الإسرائيلي من مقاربتها، في حين خطر المواجهة مع قطاع غزة يمنع تل أبيب من الذهاب بعيداً في إجراءاتها العقابية. هكذا تتداخل الأمور وتتشعّب، وإن كانت الضابطة المركزية في كلّ ما تَقدّم هي القدرة الإسرائيلية على المناورة لتحقيق أكبر قدر من الارتداع في الوعي الفلسطيني، مع الامتناع عمّا يتسبّب بمزيد من التعقيدات والمواجهات، وتحديداً مع غزة.