لا يُعدّ التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية مسألة مستقلّة بذاتها بعيداً من الهوية الفعلية للسلطة ووظيفتها الرئيسة، بوصفها وكيلةَ الاحتلال وجزءاً لا يتجزّأ من ماهيته. وعلى رغم قساوة التوصيف الذي قد لا يتساوق مع نيّة الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، لدى التوقيع على «اتفاقات أوسلو» وما تبعها، إلّا أنه يصحّ ربطاً بما آلت إليه السلطة في مرحلة ما بعد عرفات، وما حقّقته لتل أبيب ابتداءً: جهاز فلسطيني وكيل عنها، يكفل لها تأبيد احتلالها للأرض الفلسطينية، ويرفع عنها تبعاته.بدءاً من عام 1993، وقّعت «منظمة التحرير الفلسطينية» مع الاحتلال الإسرائيلي سلسلة اتفاقات عُرفت بـ»اتفاقات أوسلو»، تعلّقت بما سُمّي «ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي». نتج من هذه الاتفاقات «حكم ذاتي» فلسطيني محدود، أُطلق عليه اسم «السلطة الفلسطينية»، التي تحدَّدت مهامها وصلاحياتها ووظائفها و»شبه سيادتها» بـ»تفاهمات اتحادية» مع المحتلّ، من شأنها تنظيم العلاقة معه لخمس سنوات مقبلة، هي المدّة المتّفق عليها للانتقال من الحكم الذاتي إلى الدولة الفلسطينية. إلّا أن المرحلة الانتقالية تأبّدت؛ وبعد 28 عاماً على توقيع «الاتفاق الإطار» (أوسلو 1993)، لم تبصر الدولة الفلسطينية النور، ويقدَّر أن لا تبصر النور أبداً إذا ما استندت إلى المسيرة السياسية، التي أفرغها الاحتلال من مضمونها. حقّقت إسرائيل، عبر مسيرة أوسلو، سلّة مكاسب وفوائد استراتيجية، فيما تَحقَّق للفلسطينيين فتات «حكم ذاتي»، سُمّي «دولة فلسطين»، وفق أدبيات رجال السلطة. ومن أهمّ ما تحقَّق لإسرائيل، ما يعرف بـ»التعاون» و»التنسيق الأمني» بين الجانبَين، الذي ارتكز على سلسلة قرارات من بينها قرار إنشاء قوات الأمن الفلسطينية بموجب «اتفاق القاهرة» لعام 1994، و»اتفاق أوسلو 2» لعام 1995.
شهد «التنسيق» حالات شدٍّ وجذب بحسب حسن العلاقة مع الاحتلال أو تردّيها، وذلك حتى الانتفاضة الثانية عام 2000، حين توقفت عمليات التنسيق في ظلّ اشتراك قوات الأمن الفلسطينية في فاعليات الانتفاضة ورعايتها وتأمين الحماية لها بقرار من عرفات، علماً أن هذه القوات كانت مشكَّلة من أعضاء في جيش التحرير الفلسطيني، جاء معظمهم من الشتات، وفي خلفياتهم تاريخ طويل من الكفاح ضدّ المحتلّ. بعد رحيل عرفات عام 2004، و»انتخاب» محمود عباس رئيساً للسلطة، شهدت العلاقات تغيُّراً ملموساً، وصولاً إلى استعادة مستويات التنسيق كما كانت عليه قبل الانتفاضة. ومن بين أهم العوامل التي أدّت إلى هذه النتيجة، الجهد الكبير الذي بذله المنسّق الأمني الأميركي للشؤون الإسرائيلية - الفلسطينية، الجنرال كيث دايتون، والذي أعاد تشكيل وتدريب وتوجيه عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بما يتلاءم مع الوظيفة التي أُريدت لها، ليس فقط في «التنسيق» الأمني مع إسرائيل، بل أيضاً في ضمان السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية بهويتها الجديدة بعد عرفات، وكذلك تأمين استمرار الهوية الجديدة للسلطة مع مجيء عباس الذي أعلن عداءه لمقاومة الاحتلال ولنهج عرفات، خاصة بعدما شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلّة تماهياً مع حركة «حماس»، تُرجم فوزاً للحركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني لعام 2006.
تدريبات دايتون (وإسرائيل) ومَن معه من رجال عباس، لم تكن تدريبات بالمعنى المهني لكيانات أمنية، بل عملية اختيار و»غربلة» وسعي إلى تأكيد ولاء وانصياع أفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بما يتلاءم مع وظيفتها ودورها المزدوج: حماية ورعاية السلطة بهويتها الجديدة المعادية للخيار المقاوِم، مهما كانت تبعاته؛ واستعدادها وجاهزيتها لـ»التعاون» مع الاحتلال، أيضاً مهما كانت تبعاته. النتيجة، كما هي الآن، نجاح المحتلّ ورعاته في تشكيل أجهزة أمنية وشرطية تحقّق أهمّ وظيفة يريدها من الكيان الفلسطيني المسمَّى سلطة: خدمة أجندة إسرائيل ومصالحها الأمنية، ما يعني، وفق تعبيرات إسرائيلية، أن «الأجهزة الفلسطينية تعمل على تحقيق الأمن الإسرائيلي وردّ التهديدات، بالوكالة عن إسرائيل وبالأصالة عن نفسها»، على اعتبار ذلك العامل الوحيد، وفي حدّ أدنى الرئيس، الذي يدفع الاحتلال إلى الإبقاء على السلطة كما هي. وتنص تفاهمات «التنسيق الأمني» على جملة التزامات ذاتية إسرائيلية (غير ملزمة بالمُطلق) تجاه السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، فيما على الأخيرة موجبات والتزامات تجاه الاحتلال، تحت عناوين مختلفة «فضفاضة» تعبّر عن ندية ظاهرة، بينما هي في معظمها «التزامات انصياع»:
1- تبادل المعلومات الاستخبارية: والمقصود بها، تأمين السلطة معلومات استخبارية وفقاً لمتطلبات الأمن الإسرائيلي، في كل ما يتعلّق بتهديد إسرائيل وأمنها؛
2- تعاون الأمن الجاري: التزام السلطة باعتقال وتسليم المقاومين أو «المشبوهين» وفقاً للتعبير العبري، أو التنسيق مع الاحتلال ومساعدته في اعتقالهم، أو اعتقالهم بالوكالة عنه في سجون السلطة، مع أو من دون محاكمة؛
3- مصادرة الأسلحة لمصلحة الاحتلال: التزام السلطة وأجهزتها الأمنية بتسليم إسرائيل أيّ سلاح يصادَر في المناطق التي تنشط فيها أجهزة السلطة الفلسطينية، سواء كان السلاح تابعاً لمقاومين أو جهات جنائية، الأمر الذي يكفل لإسرائيل محاسبة السلطة على امتلاك أيّ سلاح لا يكون مسجّلاً لديها، ما يسهّل متابعتها والسيطرة على قدراتها العسكرية، حتى تلك المتعلّقة بالقدرات الفردية لعناصر أمنها؛
4- إعادة إسرائيليين: وهو نشاط تلتزم به الأجهزة الفلسطينية عوضاً عن الاحتلال، وذلك عبر البحث عن إسرائيليين «ضلّوا الطريق» ودخلوا المناطق المدينية الفلسطينية، مع تحميل السلطة مسؤولية أمنهم وحمايتهم، إلى حين نقلهم وتسليمهم إليها، ما يكفل لإسرائيل أن لا تجازف في الدخول إلى مناطق قد تهدّد عناصر أمنها، إن اضطرّت إلى البحث عن مفقودين إسرائيليين؛
5- تدريبات ومناورات مشتركة: والمقصود هنا، تأكد إسرائيل من فهم الجانب الفلسطيني دوره ووظيفته في حالات الطوارئ أو بناءً على الطلب، لإجراء ميداني يُطلب منه، سواء في ما يتعلّق باعتقال مقاومين، بشكل أحادي أو مشترك، أو تجاه حالات طارئة تتعلّق بهبّات شعبية في أماكن احتكاك مع الإسرائيليين، على تخوم مناطق سيطرة السلطة...
على ذلك، يصبح التنسيق الأمني وظيفة أمنية تُلزم أجهزة السلطة الفلسطينية خدمةَ الأمن الإسرائيلي، عبر عقد مقاولة دون أيّ مقابل. وإذا كان المعنى العام للتنسيق يفيد اتصالات مباشرة بين الجانبين قبل وخلال أيّ عمل أمني أو عسكري، إلّا أنه يعني أيضاً توكيل السلطة مهمّات أمنية وعسكرية واعتقالات وعمليات تحقيق والاستحصال على معلومات استخبارية، تتعلّق بكل ما يفيد، و/أو تريد إسرائيل أن تستحصل عليه، بل إن هذا «التنسيق» ينسحب أيضاً على النشاطات العسكرية والأمنية للسلطة، التي عليها أن ترسل بها تقارير دورية إلى أجهزة الأمن الإسرائيلية، والأمر نفسه ينطبق على قضايا غير متّصلة مباشرة بالتهديدات الأمنية، سواء للاحتلال أو للسلطة، ومن بينها متابعة الأنشطة الثقافية والإعلامية والاقتصادية وأنشطة خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي ومكالمات واتصالات، تتعلّق بجهات وشخصيات تابعية لفصائل المقاومة أو تلك التي يُشكّ في أنها على صلة معها. في المحصلة، تُعدّ أنشطة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في ما يتعلّق بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، نسخة متطوّرة لشكل من أشكال العمالة في المناطق المحتلة، وهي «روابط القرى» في ثمانينيات القرن الماضي، التي أوجدها الاحتلال في حينه لترعى مصالحه وتديم احتلاله، بأيدٍ فلسطينية.
فهم المصريون من ممثّلي حركة «فتح» أن المشكلة كبيرة في ما خصّ إعادة تشكيل «منظّمة التحرير»


وتعبر إسرائيل عن «إشادتها» وأيضاً عن «تعجّبها» من استمرار التنسيق الأمني كما هو، على رغم التحديات التي واجهتها السلطة على مرّ السنوات الماضية، بما يشمل نظرة الجمهور الفلسطيني إلى التنسيق بوصفه «عمالة» لإسرائيل. استمرّ التنسيق على حاله، كثابتة من ثوابت السلطة، على رغم حروب إسرائيل على قطاع غزة؛ وعلى رغم الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في القدس والضفة، وعلى رغم الأزمات السياسية التي أوقفت العملية السياسية بشكل كامل، وكذلك قرارات الإدارة الأميركية السابقة الاستفزازية، ومن بينها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وأيضاً التصعيد والإجراءات الإسرائيلية في القدس والحرم القدسي، وكذلك استمرار سياسة الاستيطان والتهجير وقضم الأراضي الفلسطينية بشكل واسع ومدروس. وفي هذا الإطار، تظهر إسرائيل التي ترى في «التنسيق» ذخراً استراتيجياً، مطمئنة إلى أن دافعية السلطة للحفاظ عليه محفورة عميقاً في وعيها بل وباتت جزءاً لا يتجزّأ من هويتها، إلى الحدّ الذي لا يمكن لأيّ اعتداء إسرائيلي على حقوق الفلسطينيين، أو إذلال السلطة نفسها وشخصياتها، أن يضرّ بالتنسيق أو يقلّص مستواه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا