الاحتجاجات ما كانت وحدها لتعطي نتائج طيّبة لو لم تكن القدرة العسكرية للمقاومة مفعّلة
على أن هذا الانكفاء لا يُعلم إلى أين سيصل، وخاصة أن المسألة لم تَعُد تتعلّق باحتجاجات مقدسية ضاغطة على إسرائيل فقط، بل باحتمالات التصعيد العسكري مع قطاع غزة، حيث القدرة على الإيذاء، مع إمكانات مرتفعة جدّاً للتسبُّب بجولة قتالية قد تتحوّل إلى تصعيد عسكري شامل. إلا أن ما يقابل تلك المصلحة الآنية (وها هنا الاتجاه الثاني) هو التهديد الكامن في سياقها، والمتمثّل في تلمّس الفلسطينيين حقيقة أن المثابرة على فعل الاحتجاج، مع إنضاج ظروف مساعدة لإنجاحه، سواء عبر إيجادها أو استغلال وجودها كما هي حال اصطفاف غزة عسكرياً إلى جانبهم، من شأنه أن يتحوّل إلى سلاح قادر على تثبيت الحقوق وحمايتها ومنع إسرائيل من الاستيلاء عليها. وهذا التهديد، على المدى الطويل، يُعدّ من ناحية الاحتلال سلاحاً «خارقاً للتوازن» من شأنه أن يحدّ من قدرة تل أبيب وسطوتها وخططها لتهويد مدينة القدس. كما أنه قابِل أيضاً للتطوّر، إن أحسن الفلسطينيون استخدامه، ليس في القدس المهدَّدة بشكل دائم فقط، بل أيضاً في الضفة الغربية حيث القضم والضمّ ومصادرة الأراضي. وهو بدوره مستوى آخر من التهديد، تخشى إسرائيل أن تصل إليه، وهي معنيّة بأن تحول دونه.
إلى أين سيتّجه القرار؟ هل تُفضّل إسرائيل المصلحة الآنية مع فوائدها المباشرة، أو منع التهديد على المدى الطويل؟ إشكالية يصعب الجزم بإجابتها، وإن كان الاحتلال سيسعى، على الأرجح، إلى إصدار قرارات مخلوطة من هذا وذاك، تهدف إلى تقليل الخسائر ما أمكن، عبر قرارات انكفائية غير حاسمة، وفي الوقت نفسه تَحول، ما أمكن أيضاً، دون تداعيات وخسائر استراتيجية على المدى الطويل. بالطبع، النتيجة، والحال هذه، تعني قرارات سيّالة جدّاً وصعبة التحقيق لتناقضها، وهنا معضلة صاحب القرار في تل أبيب، والتي أدّت إلى تقاذف الاتهامات بين المسؤولين وإلى مواقف ومطالبات متضادّة بتحمّل المسؤولية بين المؤسّسات المرتبطة بالقرار، وهو ما انعكس في الإعلام العبري، الذي أجاد سوق الاتهامات بدوره، ليُحمّل الفشل لكلّ القوس السياسي والأمني، بدءاً برئيس الحكومة ووزير الأمن الداخلي، وصولاً إلى أصغر شرطيّ نفّذ قرارات الشرطة في باب العمود. وكما هي العادة في إسرائيل، للنجاح ألف أب، وللفشل ألف أب آخر.
لدى الجانب الفلسطيني، يُسجَّل لفصائل المقاومة في غزة تموضعها العسكري الذي يؤثر في الاحتلال وفي اتجاهات قراراته، حتى من دون استخدام فعلي للقوة، وهو ما جعل الانكفاء مطروحاً بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، فيما البحث الآن، كما يبدو، يدور حول شكل هذا الانكفاء وإخراجه. واللافت أن تموضع الفصائل عسكرياً لم يكن متسرّعاً، بل مواكباً للوضع الميداني في القدس، مع توثّب لاستخدام القوة إن لزم الأمر، من دون ردّة فعل غير متساوقة مع الميدان، ما يمنع التدحرج نحو تصعيد يمكن أن يتسبّب بمواجهة، تُرحّل القدس عن صدارة الاهتمام وتلجم تلقائياً الاحتجاجات. وعلى رغم أهمّية احتجاجات المقدسيين وعِظَم تضحياتهم، إلّا أن الاحتجاجات ما كانت وحدها لتعطي نتائج طيّبة في وجه الاحتلال، لو لم تكن القدرة العسكرية للمقاومة في غزة مصطفّة ومفعّلة ومتوثّبة إلى جانب المقدسيين، الأمر الذي يُفقد الاحتلال فاعلية أدوات قمعه المعتادة، لاتصال الاحتجاجات بعوامل قوة رديفة تخشاها إسرائيل، وتعمل على الحؤول دونها، وإن عبر انكفائها.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا