مع بدء العدوان على قطاع غزة، وقّعت البروفسورة نادرة شلهوب على عريضة تدين العدوان وما صاحبه من جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الأمر الذي دفع إدارة الجامعة العبرية وعبر رئيسها، إلى الطلب من شلهوب تقديم استقالتها من الجامعة. هذا الطلب كشف بوضوح ضحالة الادّعاء بوجود حرية تعبير داخل المؤسسات الأكاديمية الصهيونية، والتي ادّعت لعقود مضت وجود هامش استقلالية في طرح رؤى وتصوّرات خارج الإجماع الصهيوني.
شلهوب التي تدرّس في قسمَي علوم الجريمة والعمل الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس، وتحاضر في القانون ودراسات المرأة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وتعمل أستاذة كرسيّ في مجال القانون العالمي في جامعة لندن QMUL، تدرك جيداً أن ملاحقتها واعتقالها لا يمتّان بأيّ صلة للقانون. فهي المتخصّصة فيه منذ سنوات، وجلّ دراستها وأبحاثها مرتبطتان إلى حدّ بعيد بالممارسات الاحتلالية بحقّ الإنسان الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص الأطفال والنساء.
وتعرّف «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بشلهوب بالآتي: تتمحور أبحاثها في مجال علم النفس - الاجتماعي، القانون والمجتمع، حول المعاناة الإنسانية والألم في واقع الاستلاب، والسلطة والقوّة. وتبحث في مجال جرائم الدولة المرتكبة بحقّ النساء والأطفال وبأشكال أخرى من العنف المُجَنْدَر، وجرائم سوء استخدام السلطة في السياقات الاستيطانيّة الكولونياليّة، والرقابة والترصّد، والخبيرة في ثيولوجيا الأمن الإسرائيلية، وتحليل الصدمات النفسيّة في المناطق المعسكَرة والخاضعة للاستعمار. ومن إصدارات شلهوب - كيفوركيان كتب عدّة، منها كتاب بعنوان: «العسكرة والعنف ضدّ النساء في مناطق الصراع في الشرق الأوسط: دراسة الحالة الفلسطينيّة». كما صدر عام 2015 من منشورات جامعة كامبريدج، كتاب بعنوان: «ثيولوجيا الأمن، الرقابة وسياسات الخوف»؛ وصدر كتاب لها في أيلول 2019 بعنوان: «الطفولة المحتجزة وسياسة نزع الطفولة». وقد حازت مقالاتها العديدة في الدوريات العلمية جوائز مختلفة، منها مقالتها: «احتلال الحواسّ: ترقيع وتجميل إرهاب الدولة» التي نشرت في الدورية البريطانية في علم الإجرام، جائزة رادزيوبتش لأفضل مقالة نشرت عام 2017.
وخلال تتبّع سيرتها الذاتيّة منذ طفولتها، حيث نشر موقع «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» مقابلة معها أعدّتها لمى غوشة، تطرّقت خلالها شلهوب إلى ظروف نشأتها، فهي من مواليد 1960، ووالدها المحامي الراحل جميل شلهوب كيفوركيان، وقد عانت عائلتها من النكبة، فقد أصيب والدها في قدمه خلال محاولته الرجوع متسلّلاً إلى حيفا، وهو ابن 17 عاماً في سنة 1948 ووالدتها اضطرّت «خلال نكبة 1948 إلى ركوب سفينة برفقة أولادها الثلاثة، قبل أن تتزوّج والدها، لكي تحمي نفسها وتحمي أولادها من الموت المحتّم». وقد كان لنشأتها وطفولتها دور في بلورة مواقفها، ودفعها لاحقاً إلى دراساتها وإلى عملها الأكاديمي، فهي تروي عن طفولتها: «كنا عايشين بشارع اسمه شارع المُخلّص، وكان اليهود ينادوننا "عربيم ملوخلخيم - عرب قذرين"، وكانوا يرموننا بالحجارة، أنا وإخوتي. كنت أحمي إخوتي منهم دائماً في طريق العودة من المدرسة، ولم يكن يعاقبهم أحد، كما يتمّ عقاب أولادنا».
لقد اعتادوا منذ البداية على الإفلات من العقاب، بعدما تربّوا على ذلك، وسمحت لهم مؤسساتهم بهذا الفعل، ومن الطبيعي أن يستمرّوا بهذا السلوك العدواني طوال حياتهم، على اعتبار أن ذلك مألوف وطبيعي، وجزء لا يتجزأ من اعتقادهم.
وإذا كانت هذه هي الحال داخل تلك المؤسسات الأكاديمية الصهيونية، فكيف تجري الأمور في الحياة العامة؟ وعلى وجه الخصوص وضع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فالتقارير الإعلامية، تشير إلى وجود حالة الطوارئ، وإلى حدّ ما عودة إلى الحكم العسكري الذي فرض بعد النكبة، واليوم كأنه يعود بفعل جملة من القرارات والممارسات للمؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، والتي تقود إلى تكميم الأفواه، فضلاً عن حملة من الاعتقالات طاولت المئات منهم، لمجرد التعبير عن موقف أو رأي، بشأن ما يحدث لإخوانهم في غزة.
المؤسّسات الأمنية الصهيونية، التي واصلت حصارها على أشكال الحياة العامة لفلسطينيّي الداخل كافة، لم تكتفِ بالإجراءات التعسفية التي أقدمت عليها إدارة الجامعة العبرية بحق شلهوب، فأقدمت على اعتقالها وتقديم لوائح اتهام بحقّها، ولم تكن المرة الأولى التي تتعرّض فيها شلهوب، للمضايقات ولتحريض سلطات الاحتلال، فقد سبق وفعلتها بحقّها عام 2019، بعد محاضرة ألقتها في جامعة كولومبيا في نيويورك، تناولت حياة الفلسطينيين اليومية، ولا سيما الأطفال تحت الاحتلال، فقدمت نتائج أبحاثها بشأن الموضوع، وأشارت إلى ما تفعله مؤسسات الاحتلال بأكملها للقمع. فقد تعرّضت جرّاء هذه المحاضرة لحملة تحريض شعواء ضدّها، بمشاركة إعلامية إسرائيلية وسياسية، حتى إن جامعتها العبرية تنصّلت منها، ولم تقم بدورها لحماية واحدٍ من أكاديميّيها المرموقين.
ممّا سبق، ومن تاريخ حافل بالقمع في إسرائيل بمؤسّساتها كافة، طالما الأمر يتعلق بالفلسطيني وحقوقه، تجب الإشارة بالبنان إلى مكمن لا يجب التنصّل منه أو الإشاحة عنه، ففي الكيان، لن يسمح لأيٍّ كان بإبداء الرأي على الأقلّ، فما بالنا بالفعل من أجل الشعب الفلسطيني، وما حلّ بالبروفسورة شلهوب، هو ما يحدث يومياً منذ 76 عاماً، منذ أن أصبحت أرض فلسطين محكومة بدولة الاحتلال، وكل القوانين الحديثة لدى الاحتلال تتحول إلى قوانين تطبّق عنصرياً وبذهنية تفوّقية قائمة في كل سلوك، حتى بفعل الحرب الحالية، طالما أن المبدي رأيه أو القائم بالفعل فلسطيني، ويتكلم أو يفعل من أجل الفلسطينيين.
تدرك شلهوب ذلك، كما غيرها من أكاديميّين فلسطينيّين كبار، يعملون داخل جامعات إسرائيلية، ومعظمهم يدركون ما يفعلون، لكنّ بعضهم اختار موقعه النضالي من داخل تلك المؤسسات. فأعلنت شلهوب مثلاً موقفها من الحرب على غزة، ما تسبّب لها بفصل تعسّفي، واعتقال، ومحاكمة، هذا جزء من هذا النضال الذي اختارته طوعاً.
فالحرب على غزة فتحت الباب إلى قراءة الكيان، من أبواب جديدة، لم تكن مطروقة سابقاً، أو كانت مطروقة مواربة، فالعالم كلّه اليوم، أعاد طرح إشكالية وجوده من جديد، وإمكانية تقبّله وفق الصورة التي يقدّمها الكيان عن نفسه، وكذلك طرح المأساة الفلسطينية من جديد، التي أعادت تاريخ القضية الفلسطينية منذ النكبة حتى اليوم، هذه القراءة تتجاوز المواقف العاطفية، لتطاول مسارات عملية. ففي الجانب الأكاديمي، بدأت كبرى الجامعات العالمية بمقاطعة الجامعات العبرية، مع وقف الكثير من الأبحاث العلمية المشتركة. هذا الباب الذي يشرّع اليوم، يضمن أن الجامعات العبرية تدفع وستدفع ثمن عنصريّتها، وأن سلوكها له عواقب، فهي ليست في معزل عن المكاشفة والمساءلة، وربما ما فعلته الجامعة العبرية بحقّ شلهوب سيسهم إلى حدٍّ بعيد في تلك الوسائل والمكاشفة والمحاسبة.