في أواخر الستينيات وأول السبعينيات من القرن الماضي كنت مراهقاً. كان بالقرب منا، في مخيم البارد، مقهى صغير يلعب فيه الكبار ألعاب "الشدة" للتسلية أحياناً، ومن حين إلى آخر كانوا يلعبون لعبة ما يسمونه القمار، ببضع ليرات كانت في نظرنا وقتها تساوي ثروة! فقد كنا نسعى جاهدين لتوفير 10 قروش لشراء زجاجة ميرندا أو بيبسي ونقف في زاروب من زواريب السوق "نمزمزها".
هذا المقهى الصغير كان يحتوي على تلفاز صغير بثماني طقات، أي ثماني محطات تلفزيونية، لكننا لم نكن نرى فيه إلا قناتين: محطة لبنان ومحطة سوريا فقط لا غير.
في تلك الايام، كان البث عادة يبدأ بعد الثانية ظهراً. وكان نادراً في تلك الايام أن تقتني العائلة تلفازاً، نظراً إلى ارتفاع سعره أولاً، وثانياً لأن الكهرباء لم تكن قد زارت كل البيوت وقتها. كنا نسهر في الغالب على ضوء قنديل الكاز أو اللوكس أو الشمع.
في تلك الفترة كان في مخيم نهر البارد تلفازان: الاول في مقهى السوق والآخر في مقهى في المنطقه الفوقا. فكنت بعد انصرافنا من المدرسة أتحيّن الفرصة للتسلل خارج البيت وفي جيبي مصروفي المدرسي اليومي، وهو عبارة عن 10 قروش لبنانية، كنت أدّخرها في جيبي إلى حين العودة الى البيت، معتمداً في طعامي على ما تضعه أمي في شنطة المدرسة. طبعاً لم تكن "شنطة" تقليدية، بل قطعة قماش مفصّلة من أكياس الحليب التي كانت توزعها علينا وكالة الغوث. لم يكن وقتها هناك حقائب مدرسية، وإن وجدت فهي مرتفعة الثمن لا يقوى الذين هم على شاكلتنا على شرائها. هكذا، كنت آكل ما تيسّر مما وضعته أمي في كيس القماش، وأبقي مصروفي جانباً. المهم كنت كلما سنحت لي الفرصة أتسلل هارباً الى السوق، حيث إن والدي وقتها كان ملتحقاً بالعمل الفدائي ولا يوجد في البيت سوى أمي وعمي. هكذا، كنت أهرب لأدخل المقهى وأتفرج على التلفاز. وكان رسم دخول المقهى شراء قنينة ميرندا أو بيبسي، نأخذها ونجلس على كرسي قش في آخر المقهى حيث لا مكان آخر متاحاً بسبب طاولات اللعب المنتشره داخل المقهى.
وقتها كان يعرض على قناة سوريا مسلسل "حمام الهنا" لنهاد قلعي ودريد لحام. وعلى محطة لبنان كان هناك مسلسل "فارس ونجود" الذي كان بطله النجم محمود سعيد ونجمة الغناء البدوي سميرة توفيق.
لم نكن نفهم يومها لا بالاعمال الفنية ولا بكيفية التمثيل. كنا نبكي لموقف ما، ونفرح لموقف آخر ونعيش القصة كما لو كانت حقيقة.
لم أكن أعرف وقتها أن محمود سعيد، فتى التلفزيون الاول يومها، كان مثلي، فلسطينياً! وما يدريني أنا؟ كنت أظنه بدوياً من الاردن. ربما كان وقتها بطل الشاشة بلا منازع. كان حلمي وقتها أن أكون مثل محمود سعيد. فقد أحببت التمثيل وكنت أحلم بأن ألتقيه وأكلمه. لكن، مرت الايام وكبرت وكبر حلمي في امتهان التمثيل، لكن للأسف، لم أجد من يأخذ بيدي في هذا الطريق!
بقيت أحلم حتى أواخر السبعينيات، حيث انخرطت في فرقة للتمثيل المسرحي للهواة. هكذا، أسّسنا فرقه مسرحية في المخيم وعرضنا 5 مسرحيات كان لي شرف كتابتها وإخراجها (على طريقتنا بالطبع). وبقيت أتابع الفنان محمود سعيد بمسلسلاته وأفلامه، وطالما تابعت أداءه الصوتي المميز في العديد من المسلسلات المدبلجة، الى أن كان عام 1997!
تعرفت حينها إلى صديق فلسطيني سوري كان مصمّم دبكات يعمل في "فرقة الارض" الفلسطينية، وكنت قد شكلت فرقة تراثية في المخيم، فطلبت منه الإشراف عليها، فاستجاب لطلبي. عملنا معاً على مدار سنتين أو أكثرالى أن كان عام 2000 عندما تحرر الجنوب اللبناني بفعل المقاومة وانسحب العدو. يومها كتبت قصة لقاء على الحدود بين عائلتي في لبنان وعائلتي في فلسطين. كان لقاءً مؤثراً بعد غياب طويل جداً.
قرأت القصة على صديقي فأعجب بها كثيراً، وقال "تنفع أن تكون فيلماً سينمائياً!". ضحكت حينها وقلت له: ومن يقبل يا صديقي أن ينتجها ويمثلها وأنت تعلم حالنا كفلسطينيين في هذا البلد؟
بسرعة أجابني: صديقي ممثل فلسطيني اسمه محمود سعيد!
يا الله! نزل الاسم عليٌ نزول الصاعقه! ماذا تقول؟ محمود سعيد؟ وهو... مثلنا فلسطيني؟ قال: نعم، وهو صديقي ويسكن في بيروت، وإن أردت نذهب معاً للقائه.
يا لفرحتي وصدمتي! قلت: وهل يقبل؟ قال: نعم، ولمَ لا؟ ثم، وتأكيداً لكلامه، أمسك الهاتف وطلب رقماً!
- صديقي: "مرحبا أستاذ محمود... ممكن أشوفك بكرا ضروري؟... اهه! طيب اتكلنا على الله. بكرا عالعشرة ونص بالروشة... الله معك... بأمان الله".
أقفل صديقي السماعة وقال مبتسماً "غداً نلتقي بفارس فلسطين محمود سعيد".
لم أنم تلك الليله حقيقة. هل سألتقي بعد كل هذه السنين بمحمود سعيد وجهاً لوجه؟ ستلامس كفّي كفّه؟ وكيف سيكون اللقاء؟ وهل فنان بحجمه سيقبل أن يأخذ مني قصة فيلم؟ ومن أنا؟ وما محلي من الاعراب؟ أسئله كثيرة راودتني وقضّت مضجعي حتى وقت متأخر من الليل، الى أن أتى الصباح وهلّ بنوره.
لبست على عجل وذهبنا أنا وصديقي الى منطقة الروشة. جلسنا في مقهى صغير بانتظار الفارس. وما هي إلا لحظات حتى ترجل الفارس من سيارة أجرة. كان يرتدي قميصاً وبنطلون كاوبوي، وأقبل صوبنا بسكسوكته المميزة. وقف صديقي يلوّح له، وكان قلبي يرقص فرحاً ورهبة!
وأخيراً رأيتك يا محمود سعيد. عادت بي الذاكرة الى المقهى والتلفاز أبو 8 طقات، والمقهى... دخل بابتسامة عريضة وصافحنا بحرارة مرحّباً.
بعد سلام وكلام وعتاب بينه وبين صديقي قدمني إليه بوصفي "فناناً فلسطينياً وكاتباً وممثلاً مسرحياً ووووووو"... الى آخر عبارات التعريف التي أخجلتني. قاطعت صديقي وقلت له "أستاذ محمود م... أنا زلمي على قدي". رمقني بنظرة محبة وقال "كلنا على قدنا يا صديقي، وأحياناً الموهبة تتفوّق على التعلم". تجاذبنا أطراف الحديث طويلاً. حدثته عن طفولتي وشبابي وعملي، الى أن وصلنا إلى ما أتينا من أجله. قال: هات ما عندك. فأعطيته ما كتبت. قرأ منها بضع صفحات أدمعت عينيه. سألني "هل هذه القصة حقيقية؟ قلت: نعم وأبطالها عائلتي. قبلها، وقال بإذن الله سأعمل جهدي. كل ما أستطيعه هو أن أجد منتجاً، وستكون أنت أحد أبطال الفيلم". نزلت كلماته على قلبي كماء الثلج. شربنا القهوة وأكملنا حديثنا لساعة أو أكثر على أمل أن نلتقي. لكن اللقاء لم يحصل مرة أخرى، فقد اضطررت إلى السفر بعيداً حتى عام 2006، وشاءت الاقدار أن أفترق عن صديقي الذي لم أعد أعلم بمكانه. كان لقاءً وحيداً كم تمنيت أن يتكرر، وبقيت أحلم طوال تلك الفترة بعمل يجسد تلك القصة وأن يكون بطله محمود سعيد.
حتى جاء الخبر... قبل أيام. في يوم رحيلك أيها الفارس الأسمر خسرت فلسطين أحد فرسانها الاصيلين. بقي الوطن في تفاصيلك وسمرتك، بقي حلم العودة يراودك حتى في عزّ مرضك.
أيها المترجّل فارساً كما كنت ستبقى في قلوبنا رمزاً ما دامت العتابا والميجانا وظريف الطول. محمود سعيد... أيها الانسان الطيب طيبة شعب فلسطين وأرضها، رحلت وحيداً غريباً كما عشت وحيداً في غربة دائمة، مجسداً ذاك البطل العربي في مختلف أفلامك ومسلسلاتك التي ما زالت تدغدغ فينا حب الصحراء العربية. أيها الراحل بدون وداع، كم عزّ علينا فراقك، لكنّ عزاءنا أن الوطن وأبناء هذا الوطن لن ينسوك. وعهداً لك أن تبقى فلسطين التي أحببت في قلوبنا الى أن نعود ونحمل معنا رفاتك لتدفن في يافا البرتقال كما أحببت.