بصرف النظر عن تعريف الحراك الشعبي العربي وتوصيفه، سواء أكان ربيعاً كاملاً أم ناقصاً، سواء أكان ربيعاً عربياً خالصاً أم أردوغانياً، ديموقراطياً أم إخوانياً، سواء استغلته قوى إقليمية ودولية سلباً أو إيجاباً؛ وبصرف النظر عن نتائجه النهائية القريبة أو البعيدة، فإن ما يحدث يُعدّ انقلاباً عظيماً في ترتيب الاصطفافات السياسية والفكرية، وفي توزيع مراكز القوى السياسية وأدوارها، وفي أشكال إدارة السلطة وبناء التحالفات الداخلية والخارجية، من المحتم أن يؤثر تأثيراً مباشراً على الجميع، من دون استثناء، بصرف النظر عن حجم إسهامهم في هذا التحول.
ومن البديهي القول إنّ هذا الانقلاب الكبير سيكون أبعد أثراً في بنية القوى التي مسّها الصراع من أجل التغيير، سواء أكانت هذه القوى حاكمة أم معارضة.
دول عديدة لم يمسّها الغليان على نحو جدي، منها دولة العراق، التي امتصت الاحتقان من طريق الإمعان في شرذمة الواقع السياسي والاجتماعي والوطني. دولتا السودان والجزائر نجتا مؤقتاً من التأثير المباشر، لأسباب خارجية تتعلق بالانفصال في السودان، وبالتحرك الغربي على الحدود الجزائرية. لكن الحكومة السودانية تنتظر ضغط الواقع القومي ونتائج تقلباته. بينما تنتظر الجزائر، الأكثر تأهيلاً للوقوع في قلب الإعصار، دورها في مواجهة هبوب العاصفة.
أما المجتمع اللبناني، الذي يمتلك من الأسباب ما يجعله في مهبّ العاصفة، فلم يزل هادئاً أيضاً، ولم تزل انعكاسات الحدث القومي عليه تجري في هيئة إعادة اصطفافات داخلية غير مرئية، مصحوبة بفورات علنية صغيرة، أو مناوشات عنفية مباغتة، لكنها تنفيسية واحتقانية وانفعالية، أكثر منها تغييرية أو اختبارية. ذلك لأنّ القوى الأكثر هيمنة على القرار السياسي المعارض لا تملك القدرة على تغيير معادلات الواقع، ولا المقدرة على التغيير الذاتي، الذي يمهّد لتغيير خارجي. كذلك فإنّها لا تملك الجرأة الكافية على اختبار معارك موضعية، تجريبية، بسبب تشتت إرادتها داخلياً، وخشيتها من الانجرار إلى معركة لا تملك مقوّمات إدارتها بنجاح.
عناصر الضعف في الواقع اللبناني معروفة: مجاورة لبنان لأخطر بؤرتين قوميتين، فلسطين وسوريا، بامتداداتهما العميقة جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، وشدة تأثير الضغوط الأجنبية وطابعها المباشر والسافر، وميل السياسيين اللبنانيين إلى التكتلات التقاطبية الواسعة القائمة على التحشيد المذهبي والديني والقومي والثقافي والمناطقي، والبناء التركيبي الجامد للخريطة السياسية المذهبية والعرقية.
بيد أنّ عناصر الضعف والهشاشة هذه قد تغدو، في ظروف معيّنة، عنصراً إيجابياً وتخويفياً، يحدّ من الانزلاق إلى معركة واسعة حاسمة، غير مضمونة النتائج. وهو ما يحاول بعض متأزمي المعارضة تجاهله، تحت ضغط تناقضاتهم الداخلية المستعصية على الحل، آملين أن يكون هذا المناخ فرصتهم الثمينة، التي لا تعوّض، التي قد تمكن فريقهم من الخروج من أزمته الخاصة: تأثير «الربيع العربي» عليه داخلياً، وتأثير الربيع وطنياً. أيّ التحرك المسبق للجمع بين احتواء المتغيّر الداخلي الذاتي والخارجي الوطني، من طريق الهروب نحو الحلّ العام والشامل، اللبناني.

لا حوار ولا من يتحاورون

يشمل هذا التوجّه المتأزم قوتين لبنانيتين، تنتميان إلى جبهة واحدة، ولكن بطبيعة ثقافية وإرادة سياسية وصيغ للتكتل متباينة.
أولاهما، القوات اللبنانية، الأقل تأثراً من غيرها بتداعيات الربيع العربي بنيوياً، التي تريد الإفادة منه للخروج من تاريخها القلق والمحاط بالشكوك وطنياً، ومن حجمها، على حساب الطرفين: الحلفاء والخصوم معاً. لذلك سعى سمير جعجع باستماتة وقوة إلى غلق إمكانية قيام حلّ وطني للأزمة السياسية القائمة. ربما لكي يدفع حلفاءه، الذين يدرك حجم أزمتهم الداخلية، إلى الانفجار الخارجي، لتحقيق غرضه المزدوج: التوسع على حساب الفريقين. يقول رئيس القوات اللبنانية، نقلاً عن صحيفة «النهار» اللبنانية (16 شباط 2012) «إنّ أيّ محاولة استدراج إلى طاولة الحوار يسعى البعض إلى إجراء مساومة عليها بين تغيير الحكومة والاتفاق على قانون جديد للانتخاب لن تنجح، فلا طاولة حوار ولا من يتحاورون».
لذلك، تكمن الأزمة المستعصية في القوة الثانية، تيار المستقبل تحديداً، الذي يبدو محاصراً من الداخل من قبل حاضناته وشراهة حلفائه وجشعهم، وذاتياً بفعل شعاراته التجميعية المتنافرة. ومن الخارج من قبل المحيط العربي الضاغط بتناقضاته واحتمالاته المتعددة وتأثيرها الإقليمي والدولي. سواء أكان تصميم جعجع والتطرف في رفض الحوار مقصوداً، أم مبرأً من الشكوك، فإن عواقب الانفجار الإخواني، على الطريقة اللبنانية، حيث لا توجد فرصة جدية لتحقيق الأردوغانية في لبنان على الطريقة المصرية، سيقود الجميع، وأولهم القوات اللبنانية إلى نتائج غير مضمونة. إنّ نتائج التغيير ستظهر لا محالة على الجميع، لكنها مرهونة لبنانياً بعاملين: خارجي يتمثل في سقوط أو ثبات الحلفاء الإقليميين والقوميين، وثانياً قوة تماسك حلقات السلسلة السياسية الداخلية؛ لأنّ الخلل، قوة أو ضعفاً، في ترتيب عقد السلسلة، يستتبع ويفرض على الجميع تغييرات بنيوية إرغامية، قد تدفع بعض الأطراف الشيعية والمسيحية إلى الانكفاء الجغرافي والمذهبي، لكنها لن تمنح أحداً ضمانات للنجاح، وعلى وجه التحديد حزب القوات اللبنانية، الذي لا يحتفظ إلا بالدعم الخارجي وبنسب من المناصرين معروفة الحدود، وبشعارات الضد: لا للحوار، لا للشراكة، لا للبحث عن حل داخلي للأزمة. بيد أنّ ذلك سينعكس مجدداً، بشكل حاسم، على مستقبل الحليف: تيار المستقبل. ففي هذا التيار يجري صراع عنيف، أخذ يظهر إلى العلن في نوبات عصابية مختلفة، في هيئة هيجانات إعلامية: عقاب صقر، أو سياسية: مهاجمة مقرّ الحكومة، أو طائفية: أحداث طرابس، أو عسكرية: تمويل وإسناد المعارضة السورية المسلحة ودعم الجماعات اللبنانية التكفيرية المسلحة، واقتصادية: بناء مؤسسات الحريري المالية، وشراكاتها الخارجية من ممولين وداعمين، ونوبات مقاومة مفاجئة كزيارة غزة، أو معادلات وملاسنات سوقية، استفزازية: مقايضة عقاب صقر بحسن نصر الله و«محاكمتهما معاً»! كما اقترح النائب جمال الجراح تلفزيونياً. (النزاهة والوفاء تفترضان مقايضة نصر الله بسعد الحريري، حتى لا يُتهم المستقبل بمقايضة شيعي بشيعي).
أزمة المستقبل في مواجهة تداعيات «الربيع العربي» تكمن في أنه تجمع شعاري عاطفي، يضع الإسناد التعبوي الخارجي، ممثلاً في الضغط السياسي والإعلامي والمالي والقانوني الأجنبي فوق كل اعتبار، جاعلاً منه منهجاً للحوار الداخلي (الوطني) مع الخصوم والأصدقاء. ويعتمد الخطاب اللفظي، والصيغ التحريضية المذهبية الجاهزة، والشعارات الخطابية العامة المفرغة من ملموسية واقعية، من طريق المراهنة على برنامج يقوم على مبدأ الضد، لا مبدأ الإيجاب. أي مبدأ التقاطب من طريق «لا» لمشروع الآخر، من دون وجود مشروع خاص واضح المعالم يملأ الـ«لا» المعارضة. فعدا توجهه المالي والتجاري وارتباطاته الإقليمية والدولية، لا يملك تيار المستقبل هوية سياسية داخلية بينة المعالم، باعتباره كياناً تنظيمياً معبّراً عن اتجاهات اجتماعية، بل هو أقرب أن يكون مجموعة من ردود الفعل السياسية التجميعية، أكثر منه فعلاً ذا فعالية تشغيلية داخلية، نابعة من بنية واضحة التكوين ثقافياً واجتماعياً. وهذا ما نراه في أبرز مطالبه السياسية: نزع سلاح المقاومة من دون بديل وطني، مواجهة دور الشيعة السياسي بغطاء يُنفَّذ ضمن الارتكاز الطائفي السني، رفض تحالفات الآخرين الاقليمية والاعتماد السافر والكلي على قوة المعادلات الاقليمية والدولية، حتى في الشؤون الداخلية. التحريض على الخصوم بتهمة العنف، وتشجيع الانفلات العنفي شعبياً، الحرص المبالغ فيه والتخويف السياسي من مخاطر التعامل مع الصراع الحدودي، واللعب المكشوف بالخطر الحدودي.
كلّ تلك التناقضات تجعل هذا التيار، الذي عاش على خطاب الضد، لا خطاب البدائل، أكثر عرضة للانكشاف، وأكثر تأهيلاً للوقوع في الهزات الداخلية. إن انتصار تيار الإخوان المسلمين عربياً يسحب البساط المذهبي من تحت أقدام هذا التيار، ويجعله يقف في مواجهة أمرين: إما الوقوف بوجه تنامي الخطاب التحريضي المذهبي بمستوياته كافة، من الإعلام إلى المواجهة السياسية، وصولاً إلى السلاح الذي تختزنه الحاضنات الطائفية السنية، التي هي قلب البناء الدعائي والسياسي لقوى تيار المستقبل. بهذه الخطوة من المحتم أن يفقد التيار رصيده السياسي كاملاً، دفعة واحدة. أو محاولة التماهي ومواصلة التستر واللعب على تناقضات الواقع، في هيئة فورات واندفاعات سياسية، ومغامرات تمويلية عسكرية ومالية وسياسية، يرافقها إسناد دولي في هيئة تصعيد اتهام الخصوم باسم القانون الدولي في لحظات سياسية مرسومة سلفاً وبتوقيتات داخلية، وشعارات الوقوف ضد التدخل الإيراني (التحريض العرقي ــ المذهبي)، وشعارات معاداة النظام السوري (الانحياز إلى أحد أطراف النزاع السلح). بيد أنّ ضغط الواقع لم يعد يسمح بالمراوحة أو اللعب كثيراً. فقد قادت هذه المراوحة التيارات التكفيرية والأصولية السلفية، التي تجد إسناداً مباشراً وغير مباشر من فريق المستقبل وحلفائه، إلى البروز كقوى محلية صغيرة، تبدو متناثرة في الظاهر، لكنها تنتظم ضمن أفق جامع، محدد سياسياً، مسلحة معنوياً ومادياً، وجاهزة تماماً، نفسياً وعقائدياً وعسكرياً، لأخذ زمام المبادرة، لكي تعلن نفسها قوى مستقلة، بمسميات خاصة بها. إن تيار المستقبل يواجه معضلة داخلية كبرى. فهو لم يعد يستطيع اللعب بورقة العلمانية أمام تنامي الأصولية التكفيرية، ولم يعد قادراً على مواصلة الدور القيادي المركزي، استناداً إلى استقواء البؤر العنفية الأصولية، ولم يعد يستطيع التبشير وطنياً؛ لأنّ ضجيج الحراك العربي أبهت نهج خطاب الضد الإعلامي القائم على ردود الأفعال، والمسنود بدفعات التقوية الأجنبية في هيئة استقواء على الخصم بالمحاكم وبنزع السلاح أو التدخل الإقليمي وغيرها من جرعات المنشطات. لقد كشف الواقع الراهن الغطاء عن تناقضات بيت المستقبل، ووضع مستقبله على محك شديد الخشونة والخطورة.
هل سيتمكن التيار من إعادة تماسكة وإعادة تأهيل نفسه استعداداً للصدمة؟
هذا أمر مرهون بمقدرة تيار المستقبل على تفهم المأزق الداخلي، باعتباره حالة موضوعية، إرغامية، لا يمكن الهروب منها إلى الأمام أو إلى الخلف. ويتوقف أيضاً على مقدرة المنافسين والخصوم على التماسك، وبمقدرة حلفاء المستقبل، الطموحين والشرهين، على المعاونة في تخفيف حدة الاحتقان الداخلي، وتأجيل حدة انفجارالتناقضات المستعصية، غير القابلة للحلّ أو للتسوية. لكن أغلب حلفاء المستقبل يقفون تحت واجهات دينية مغايرة، لا يمسها التغيير العربي الإخواني بقوة، مسّاً مباشراً، ما يجعلها تكون أقل حذراً في طموحاتها الذاتية، لكنها ستكون أكثر عرضة للأذى في حال اتخاذ خطوات حاسمة، ومصيرية، في مرحلة شديدة القلق والضبابية، وهذا ما يضاعف من أزمة تيار المستقبل الداخلية، ويقوي عملية اختناقه واضطراب سلوكه.
لكل هذا، يبدو أن تيار المستقبل سيواجه مصيره منفرداً، إذا لم تنقذه معجزة دولية، أو إذا لم تنشب معركة عسكرية وسياسية تخلط الأوراق اللبنانية جميعها، وتقلب الموازين كلها، رأساً على عقب، وترغم الأعداء والمنافسين والأصدقاء على إعادة النظر في حساباتهم وثوابتهم الراهنة.
أما المراجعة الذاتية الداخلية، فلم تختبر بعد، ولا يعرف أحد حظها من القبول لدى قيادات وقواعد المستقبل، لأنها ليست جزءاً من خبرات التيار.
* كاتب عراقي