عشية المعركة الدائرة في سوريا، قبل حوالى سنتين، صُمّت الآذان بصيحات «المعارضة السلمية» حول الديموقراطية والحريات العامة المفقودة، وحول الدكتاتورية والقمع والحكم العائلي والفساد في النظام. هذه البروباغندا التي درجت الاستخبارات الاميركية على فتح أبواقها مع كل «ثورة ملونة»، استُخدمت لمواكبة وتطويع «الربيع العربي». وحققت «نصف نجاح» في تونس ومصر واليمن، لكنها فشلت في ليبيا، فاضطر الحلف الأطلسي إلى استخدام أساطيله إلى جانب اسطول القبائل و«الاسلاميين» التكفيريين للتخلص من نظام القذافي.
أما في سوريا، فقد فشلت أساطيل البروباغندا فشلاً ذريعاً بسبب هزال المعارضة «الاصلاحية والسلمية». وفي غضون أسابيع أفلست «المعارضة السلمية»، وبدأت العمليات العسكرية والتفجيرات الارهابية، لكن سرعان ما ظهر، أيضاً، عجز المعارضة المسلحة الداخلية عن زعزعة النظام، كما ظهر عجز المعارضة الداخلية عن انجاز تسوية سياسية معه.
ولتغطية هذا العجز الفاضح، بدأ زعيق المعارضة السورية بالمطالبة بالتدخل العسكري الخارجي. وطرحت المسألة في جامعة الدول العربية، التي كشفت، بالمناسبة، عن وجهها الحقيقي كأداة «تقسيمية» تابعة للسياسة الأميركية. بعد ذلك، انتقلت المسألة إلى مجلس الأمن، لكن جهود أميركا وحلفائها اصطدمت بالفيتو الروسي ـــ الصيني.
روسيا أعلنت أنها ضد أيّ تدخل عسكري على الطريقة الليبية، وأيدت الصين دون أي ضجة الموقف الروسي، لكن لمعرفة أهمية الموقف الصيني، يكفي أن نذكر أن 60% من القوات المسلحة الأميركية، خارج أميركا، تحتشد قرب حدود العملاق الصيني، الذي لا يمكن التكهن بردود فعله حيال أي محاولة لـ«كسر كلمته» والاستخفاف بموقفه.
في ظلّ هذا العجز، اتّجهت أميركا وحلفاؤها نحو استخدام «الجيش الاحتياطي الاستراتيجي»، المتمثل في الحركات «الإسلامية» التكفيرية كالـ«قاعدة» وأخواتها.
وبدأ تدفق عشرات الآلاف من المقاتلين نحو سوريا، عبر الحدود اللبنانية، والأردنية، والعراقية، وخصوصاً عبر تركيا التي تحولت إلى «قاعدة» حقيقية، عسكرياً ولوجستياً، للجيش «العالمي» الجديد!
ومنذ شهور اتخذ الصراع الدامي في سوريا طابعاً دولياً واضحاً، يكفي أن نشير إلى معالمه الرئيسية التالية:
1 ـ إن قوى المعارضة المسلحة الداخلية («الجيش السوري الحر»، وبعض العصابات «الاسلامية» أو «العلمانية»)، أصبحت لا تمثل سوى ملحق صغير جداً بالجيش «الاسلامي» العالمي، بقيادة أميركا وتركيا.
2 ـ اتضح بسرعة أن الهيئات الاعلامية، والسياسية، والعسكرية التابعة للمعارضة، ليست أكثر من واجهات شكلية لتضليل ذلك القسم من الجماهير الساذجة المؤيدة للمعارضة، من جهة، ولتضليل من يمكن من الرأي العام العربي والعالمي، من جهة ثانية.
3 ـ تعمل أميركا وحلف شمال الأطلسي، عبر الدعم المالي والسياسي والاعلامي من الأنظمة النفطية العربية، على تجميع أكبر عدد ممكن من «المتطوعين الاسلاميين» من كل أنحاء العالم، في تركيا، وتشكيل «جيش إسلامي» يضطلع بدور «ذراع اسلامية» للحلف الأطلسي، يجري ربطها بالاشكال المناسبة، وعلى مراحل، بالجيش التركي. وسيكون على رأس مهمات هذا «الجيش الاسلامي - التركي – الأطلسي» الحدّ من الوجود الروسي في المنطقة، وعقد معاهدة «سلام شامل» مع إسرائيل، ثم فتح معركة مصيرية مع «حزب الله» وحلفائه في لبنان، ثم الاستدارة نحو إيران.
4 ـ أصبح من الواضح تماماً أنّ طلائع «الجيش الاسلامي» التي تقاتل في سوريا، ومعها كل المعارضة الذيلية، لا تستطيع أن تصمد أسبوعاً واحداً دون مختلف أشكال الدعم الأميركي والخليجي...
5 ـ لا يكاد يحتاج إلى برهان أن القوات الوطنية السورية، التابعة للنظام، ومعها كل القوى الوطنية الحقيقية، الحريصة على وحدة واستقلال البلاد، أصبحت تخوض معركة مصيرية حقيقية، بكل أبعادها العسكرية والسياسية والانسانية. وهذه القوات لن تستطيع أن تصمد طويلاً، دون الدعم الروسي والإيراني والصيني.
6 ـ إن «الجيش الإسلامي» ليس متجانساً. وأثبتت حادثة قتل السفير الأميركي في ليبيا أنّ بعض هذه المجموعات في هذا الجيش يمكن في أن تنقلب في أي وقت ضد داعميها. وهذا يعني ببساطة أن الأميركيين ليسوا على عجلة من أمرهم في حسم المعركة في سوريا، حتى لا يقعوا في «فخ ليبي» ثان. ومن مصلحتهم إطالة أمد المعركة في سوريا بالقدر الذي تتطلبه عملية فرز «الاسلاميين»، واستخلاص الأطراف الذين «يحلبون صافياً»!
7 ـ مع مرور السنين، يبتعد بنا الزمن عن التجربة المريرة التي خاضها السوفيات (وبالتحديد الروس) في أفغانستان. فهذه المعركة دقت الإسفين الأكبر في وجود الاتحاد السوفياتي السابق، إذ بدأ في أفغانستان فرز الجيش الأحمر السوفياتي إلى (مسلم) و(غير مسلم)، حيث كان يرسل الجنود المسيحيون فقط للقتال في أفغانستان. ومع مرور الزمن لا يمكن الاستنتاج أن معركة أفغانستان قد أصبحت في ذمة التاريخ بالنسبة إلى روسيا. فالدولة الروسية تعلم تماماً أنّ داخل الفدرالية الروسية أكثر من 20 مليون مسلم، وتحدها تركيا والجمهوريات الاسلامية «السوفياتية» السابقة. فإذا ما نجحت المخططات الأميركية ـ الصهيونية في تدمير سوريا، وفي طرد الروس من شواطئ المتوسط، فمن يضمن أن لا يكون الهدف التالي للعدوان (وحتى قبل ايران) روسيا بالذات. فتبدأ عملية تفجير روسيا «من الداخل» بواسطة الحركات «الاسلامية» المرتبطة بتركيا، والممولة من الدول النفطية ومن المتمولين الروس، مثل بوريس بيريزوفسكي، ومايكل تشورني، وليف ليفايف، وغيرهم من حائزي الجنسية الإسرائيلية.
8 ـ أخيراً، تأخذ «معركة سوريا» بعدها العالمي الرئيسي على جبهة الطاقة، وتحديداً النفط والغاز، الذي لا يزال يعدّ العصب الأساسي للنظام الرأسمالي العالمي. فربما يكون (أو لا يكون) من باب المصادفة، أن تبدأ تمثيلية «الربيع العربي»، ولا سيما «المعركة السورية»، مع طرح موضوع الشروع في استخراج النفط والغاز من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. وحسب المعطيات الأولية المنشورة، تشمل منطقة الاستخراج البحرية غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولبنان، وقبرص، وبالتأكيد سوريا، وليس من المستبعد أن تشمل لواء الاسكندرون المحتل. إنّ الإعلام الموجه من قبل أميركا وأوروبا والدول النفطية لا يحاول أن يتناول مسألة العلاقة العضوية بين «الربيع العربي» و«المعركة السورية»، وبين احتمالات تحول شرقي المتوسط إلى منتج رئيسي للنفط والغاز، لكن جهل أو تجاهل حركة دوران الارض لم يعن يوماً عدم وجودها. واليوم لا يعني تجاهل دور النفط والغاز، غير المستخرج حتى الآن في شرقي المتوسط، أن لا يكون هذا العامل هو الأهم في التطورات والاحداث الجارية فيه.
ويكفي أن نلفت النظر إلى الملاحظات التالية:
أـ إذا بدأ العمل لاستخراج النفط والغاز في المنطقة الممتدة من مصر إلى سوريا، وبسبب قربها الشديد من أوروبا، فهذا سيؤدي إلى انقلاب تام ليس فقط في سوق الطاقة العالمي، بل وفي الاقتصاد والسياسة الدوليين بأكملهما.
ب ـ على هذا الأساس، نفهم على نحو أفضل طبيعة وجود الجيش التركي في شمال قبرص، وانشاء جمهورية شمال قبرص. ونفهم على نحو أفضل أيضاً التقرّب التركي السابق من النظام السوري، ثم الانقلاب عليه.
ج ـ ونفهم الحماسة الخليجية المفرطة، وخصوصاً السعودية والقطرية منها، للمعركة ضد سوريا، كما نفهم الاهتمام الخليجي و«الحزب الخليجي» اللبناني، بلبنان والشواطئ اللبنانية، من فندق الموفامبيك إلى شركة «سوليدير» إلى وضع اليد على الأملاك البحرية.
د. إذا بدأ استخراج النفط والغاز في هذه المنطقة، فإن كونسورتيوم النفط العالمي بقيادة أميركا سيقع في مأزق كبير لا يمكن التنبؤ بمخارجه. وذلك بسبب الوجود العسكري الروسي، ووجود «حزب الله» وصواريخه، إضافة إلى الوجود الإيراني في الخليج، وامكانياته لاغلاق مضيق هرمز.
هـ . إنّ احتمالات خروج روسيا من شرقي البحر الأبيض المتوسط، ستضع جميع شعوب هذه المنطقة على نحو كاسح ومأساوي تحت «رحمة» إسرائيل والحلف الأطلسي وأميركا، بكل الأبعاد العسكرية والاقتصادية والسياسية والانسانية. وكنتيجة منطقية سيضع طبعاً هذه الشعوب تحت «رحمة» جزاري الحركات «الاسلامية».
و ـ تعدّ روسيا لاعباً رئيسياً في سوق الطاقة العالمي، إذ إنّها منتج رئيسي للنفط والغاز، ومزود أساسي لأوروبا. ووجودها العسكري في شرقي البحر الأبيض المتوسط ضرورة روسية، مثلما هو ضرورة لشعوب المنطقة. ومن الصعب إقناع روسيا بالخروج من المنطقة بفعل بعض المناورات العسكرية المشتركة الأميركية ـ الإسرائيلية، أو غيره من الأساليب.
مما تقدم يمكن استخلاص الاستنتاج البسيط التالي: إنّ معركة سوريا تتجاوز تماماً نطاقها القطري، ونطاقها الاقليمي، ولم يعد بالامكان إيجاد تسوية سورية ـ سورية، أو اقليمية (على غرار اتفاق الطائف اللبناني)، وهي تتخذ بعداً عالمياً بامتياز. وامكان وجود تسوية مرحلية، أصبح حكماً يمر عبر ايجاد تسوية عالمية، أساسها تسوية أميركية ـ روسية، تشارك فيها أوروبا والصين، وإسرائيل، وتركيا، وإيران.
وإذا تعذرت مثل هذه التسوية، فإن البديل هو معركة كبرى بين «الجيش الاسلامي العالمي» وجميع حركات المقاومة العربية.
* كاتب لبناني