تحرز الصهيونية السياسية نجاحات كبيرة لأنها لا تعزف على وتر «إسرائيل» فقط، بل على أوتار متعددة يعود مجملها الى دول حلف شمال الاطلسي، وهو حلف نشأ أصلاً لتنظيم المكتسبات الاستعمارية لمعظم دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الاميركية من دون اللجوء الى حرب فيما بينها. تمثل «إسرائيل» الجبهة الامامية والمتقدمة لهذا الحلف. نهاية «إسرائيل» تعني نهاية المشروع الاستعماري في منطقة الشرق الاوسط. فالمواجهة مع «إسرائيل» لا تختص بمواجهة دولة صغيرة؛ انها مواجهة لعالم مصدر ثروته ورخائه وازدهاره يقوم على إخضاعنا لأخذ ما تمتلكه أرضنا بقوة السلاح.منذ الحرب العالمية الاولى، أي منذ مئة عام والنار تلف منطقتنا الغنية بموقعها ومواردها وثقافتها، لا بل إن نار غرب البحر الابيض المتوسط سُلطت على شرقه قبل نشوء المسيحية مع فتوحات الإسكندر المقدوني، لذلك كل حديث عن «حروب صليبية» هو خارج السياق الحقيقي للأمور، والسياق الحقيقي هو التملك غير الشرعي للمواد الخام وللموقع، تارة باسم الدين كما حصل في القرون الوسطى، أو باسم الديمقراطية والحرية بالامس القريب.

أما اليوم فاللحن السائد هو محاربة الارهاب، ولا ندري ماذا سيكون شكل الحجة في المستقبل. المهم أن يعي جميع «المستعمَرين» أن الهدف هو نزع شرعية المُلكية القانونية عنهم وإعطاؤها للأجنبي.


شرعية دول سوراقيا والفرضيات الخاطئة

نحن مستعمَرون منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، لأن هذه الحرب التي انتصرت فيها القوى العظمى من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية هي التي قررت مصيرنا، وهي التي قررت الشكل الذي ستتخذه دولنا. لم يُسمح لنا نحن سكان هذه المنطقة، أن نبقى كما كنا موحدين، فتم الإجهاز علينا وتقسيمنا بناء على النموذج الصهيوني للمستعمر. لم يكن بالامكان إدخال عنصر غريب وإسباغ صفة الشرعية عليه الا عبر تحويل المنطقة الى دويلات طائفية، فيتساوى الجميع: الاجنبي والاصيل من أهل البلد.
لا شرعية لكيانات سايكس ــ بيكو، فالشرعية في تقرير المصير تعود لسكان المنطقة وليس لقوى أجنبية تحتل أرضنا مباشرة أو مداورة، وبالتالي الحديث من قبل العديد من الكتاب بأن ظهور جماعات كداعش يعود الى تآكل شرعية الدولة العربية هو كلام يفترض أولا، وجود «دولة عربية» وذلك غير موجود على أرض الواقع. وثانياً، أن هذه الدولة حازت شرعيتها عبر إرادة سكانها، وهذا أيضاً غير صحيح. ما حصل هو العكس تماماً، لقد فُرضت تقسيمات سايكس ــ بيكو فرضاً على أهل البلاد، وأُمليت عليهم دساتيرهم وأشكال دولهم، وتم تعيين رؤساء هذه البلدان إما عبر انقلابات عسكرية أو عبر ضغوط قاسية على مجالسها التمثيلية، وكل من حاول مواجهة هذه الهيمنة الاستعمارية قُتل أو أُقصي، واستُبدل بمن يحافظ على مصالح المستعمِر، وتدخٌل سفارات الدول الاستعمارية الكبرى دليل واضح على مسار الامور في مشرقنا العربي.
طالب سكان سوراقيا بالحفاظ على وحدتهم مع انتهاء الحرب العالمية لأنهم يعرفون تمام المعرفة أن تقسيمهم يؤدي الى دمارهم، فلا الفلسطينيون ولا اللبنانيون ولا السوريون أرادوا الانفصال، والبرهان على ذلك التقرير الذي رفعته لجنة كينغ ــ كراين الاميركية الى عصبة الامم عام 1919 والذي أكد رغبة الاكثرية الساحقة رفض سايكس ــ بيكو برمته. لا يستطيع الغرب أن يشكك بما أورده كينغ وكراين، خصوصاً ان من قام به ليس من أهل بلاد الشام، بل أحد المنتصرين في الحرب.
نهاية «إسرائيل» تعني نهاية المشروع الاستعماري في منطقة الشرق الاوسط


أكثر من ذلك، ذهب الرجلان الى القول إن إدخال الاوروبيين اليهود الى المنطقة سيؤدي الى نشوب حروب؛ وفي حال نجاح الاستيطان الصهيوني يقترح كينغ وكراين أن تبقى الاماكن المقدسة في القدس بيد المسلمين لأنهم الوحيدون القادرون على حفظها كونهم يعتبرونها كلها مقدسة: المسيحية واليهودية كما الاسلامية.
الدويلات التي أُنشئت قامت على أساس طائفي ومذهبي لأن هذا الشكل هو الوحيد الذي يسمح بوجود «اسرائيل» كدولة يهودية. رسخ المبدأ الطائفي في صلب وجود لبنان الكبير، وأُعطيت رئاسة الجمهورية للموارنة دون غيرهم من الطوائف، كما باشر الفرنسيون في تقسيم ما تبقى من سوريا كي لا تقوم لها قائمة، فبعد اقتطاع اربع محافظات ألحقت بلبنان، بدأ العمل لبناء دويلات درزية وعلوية وسنية.
ما نشاهده اليوم لا يختلف عن الامس، فالغرب هو هو، يريد مزيداً من المذهبيين والطائفيين الذين يقبلون «إسرائيل» لأنهم ينظرون الى أنفسهم وهوياتهم كسنة وشيعة ودروز وموارنة وغيرها من الملل، وبما أن ما تبقى من سوريا لا يزال يقاوم ويؤمن بالهوية القومية يقترح موظفان رفيعا المستوى كانا يعملان في مجلس الامن القومي الاميركي هما ستيفن سايمون وجوناثان ستيفنسون في مقالة لهما في جريدة «نيويورك تايمز» نشرت أخيراً، أن يُعاد العمل بالمشروع الفرنسي وإنشاء مقاطعات طائفية ومذهبية وعرقية ذات حكم ذاتي، أي تطبيق الخطة نفسها التي سارت عليها الولايات المتحدة الاميركية في العراق*.
منذ البداية الهدف خلق كيانات طائفية ومذهبية، لذلك عمل الغرب الاستعماري على إلغاء الشعور الوطني عبر تأليب مجموعات دينية ومذهبية ضد بعضها ما أدى الى انعدام الثقة فيما بينها وعدم تمكنها من بناء حياة مشتركة على أرض واحدة. فالمحاضرات التي نسمعها من قبل إداريين وأكاديميين أجانب حول أننا فشلنا في صياغة وطن ومواطنة تحاول حرف أنظارنا عن أن شرعية هذه الدويلات هي شرعية الدول الكبرى المنتصرة المحتلة للارض، واية محاولة لأي من هذه الكيانات الاستقلال بقراراتها تؤدي الى اعلان الحرب عليها من قبل دول الغرب المسيطرة؛ وبالتالي تعريفنا وكأننا دول مستقلة تعمل ما يحلو لها مناف للواقع، فلا نحن دول مستقلة، ولا نحن أسسنا دولنا في الشرق العربي، ولا نستطيع القول إننا مواطنون لأنه لم يُسمح لنا أصلاً أن يكون لنا وطن، فالذي صمم حدود العراق هو بريطانيا العظمى لا العراقيين والذي أدى الى تقسيمه هو الولايات المتحدة الاميركية. وباسم الحرية والديمقراطية وانهاء الديكتاتورية فُتحت أبواب العراق للارهاب القاعدي التكفيري الذي ما لبث أن انتشر في أرجاء سوراقيا.
لقد عقدت الادارة الاميركية التي سيطر عليها المحافظون الجدد العزم على إنهاء الدولة العراقية كما نعرفها، ومن أجل ذلك قامت الادارة الاميركية بتنصيب بول بريمر كمندوب سام تماماً كما فعلت دولتا الانتداب الفرنسية والبريطانية نهاية الحرب العالمية الاولى، فصلاحياته تخطت ديكتاتورية صدام حسين فأعطى لنفسه الحق في الحلول مكان المؤسسة التشريعية والتغاضي عما يريده الشعب العراقي. بادر الى الغاء وحظر حزب البعث، أي رفض مبدأ إنشاء الاحزاب، وحرية المعتقد التي تتغنى بهما أميركا على أساس انهما من ركائز الدولة الديمقراطية، كما أصدر قانوناً يمنع الاحزاب التي عارضت الاحتلال من تقديم مرشحيها للانتخابات النيابية، أي منع فئات من الشعب من ممارسة حقها الوطني وقمعها بدلاً من احتوائها، ووضع دستوراً شبيهاً بالطائف اللبناني حيث التمثيل في الهيئتين التشريعية والتنفيذية طائفي وعرقي ما يتناقض ومفهوم دولة المواطن كما يمارسه الغرب.
تبع ذلك حل الجيش العراقي، وهو بند لطالما طالبت به «إسرائيل» لأنها تعد الجيش العراقي من أقوى الجيوش العربية بعد أن استطاعت إلغاء دور الجيش المصري عبر معاهدة كامب ديفيد.


الديمقراطية والمؤسسة العسكرية

جاهدت الولايات المتحدة الاميركية لإلغاء دور الجيوش العربية وحاربتها باسم الديمقراطية، فهل فعلاً تريد سيادة الدول على أرضها؟
أولاً، لا إمكانية لارساء نظام ديمقراطي اذا لم تكن الدولة قومية. فالديمقراطية تعني وجود شعب هو مصدر السلطات وله تعود الكلمة الفصل في قرارات دولته. لم يسمح لنا الغرب الاستعماري ببناء دولة قومية، أي السماح بأرضية ملائمة لتكوين شعب متجانس، فمجرد الحديث عن أننا طوائف ومذاهب وأقليات وأكثريات «ككيانات سياسية»، لا كأديان، يعني أننا خارج مفهوم الدولة القومية.
ثانياً، انتقاد العديد من البحاثة الاميركيين تبوء الجيش للسلطة في العراق وسوريا ومصر وليبيا واعتباره منافياً للاصول الديمقراطية هو انتقاد مخادع، فالجيوش العربية هي كل ما تبقى للحفاظ على هيكلية دولة جامعة، والغاء دور الجيش يؤدي تلقائياً الى تفسخ الدولة وانقسام المجتمع الى اثنيات وطوائف كما حصل في العراق. البديل من الجيش ليس الديمقراطية التي من غير الممكن تطبيقها خارج إطار الدولة القومية، بل انهيار الدولة لأن الجيش هو العامل الوطني الموحد والوحيد الذي نما بالرغم من تقسيمات سايكس ــ بيكو لسببين:
1ــ استطاع أن يدمج الطوائف والمذاهب والطبقات ضمن بوتقة واحدة.
2ــ بنى الجيشان العراقي والسوري عقيدتهما القتالية دفاعاً عن قومية عربية تريد إلغاء مفاعيل سايكس ــ بيكو والمستعمرة الصهيونية، أي أن حدود عقيدة الجنود أبعد من تقسيمات المستعمِر. لذلك ألغي دور الجيش المصري القومي، وحُل الجيش العراقي عام 2003، وتدور رحى الحرب للقضاء على سوريا وجيشها العربي المقاوم منذ 2011.
ثالثاً، غالباً ما تُعلق القوانين المتعلقة بالنظام الديمقراطي في حالة الحرب، فحتى دولة قومية وقوية كالولايات المتحدة الاميركية والتي تعتبر نفسها قمة الديمقراطية، لجأت الى الغاء العديد من نظمها التي تتعلق بحقوق المواطن وحرياته بعد هجمة الحادي عشر من أيلول.
ضُرب برجان في نيويورك فانتابت أميركا من شرقها الى غربها هيستيريا أفقدتها المنطق والصواب فتنازلت قيادتها عن تطبيق حقوق الانسان التي لا تفتأ تذكرنا بها، ومارست، ولا تزال، التنصت على هاتف الاميركي/ة، والتفتيش في بريده، وقراءة رسائله الالكترونية، وملاحقة تداولاته المالية، وحتى الاطلاع على أوضاعه الصحية. وسمحت السلطات الاميركية لنفسها أن تقبض على أي مشتبه به وسوقه الى السجن، من دون السماح له بطلب محام للدفاع عنه أو الاتصال بأهله، وتركه في السجن من دون محاكمة كما هو الوضع القائم في سجن غوانتنامو منذ اكثر من عقد من الزمن، وانتهاك الاتفاقيات الدولية فتقبض على أسرى، وترحلهم ليلا على متن طائرات الى بلدان أخرى تقوم بتعذيبهم، كما تقوم هي أيضاً بالتعذيب كما ظهر في صور سجن أبي غريب، وتبني سجون سرية ترفض اعلان أسماء سجنائها.
كل هذه الانتهاكات للديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المواطن بسبب حادثة واحدة في مدينة محددة، فكيف الحال بنا ونحن في حرب دائمة منذ نهاية الحرب العالمية الاولى: نُقسّم وتُقطتع أراضينا، تارة من تركيا وأخرى من «إسرائيل»، ونرزح تحت الاحتلال المباشر البريطاني ــ الفرنسي، وغير المباشر الاميركي ثم تدور الحروب على أرضنا ولا تتوقف. لم تتوقف منذ عام 1914. مئة عام من الحروب جيل بعد آخر، وتطالب النخبة المثقفة الاميركية بحقوق الانسان عندنا؟

الاستقرار الاميركي وإعادة تشكيل المنطقة

تعرف أميركا أن دويلات سايكس ــ بيكو هشة ضعيفة لا تقوى على الدفاع عن نفسها، هذا ما تريده أساساً، خلق كيانات عاجزة عن الاستقلال الفعلي، الا أن الولايات المتحدة الاميركية لا تستطيع استغلال هذا الضعف وادارته الا اذا كانت المنطقة بكاملها تحت سيطرتها، فأي تمرد لأية دولة سيؤدي الى زعزعة الارضية التي بنت عليها أميركا نفوذها. لذلك حين نسمع أصواتاً تتكلم عن «الاستقرار» علينا أن نفهم أن ذلك يعني استقرار أميركا ومصالحها لا استقرارنا نحن، أهل هذه البلاد، تماماً كمطالبة «إسرائيل» بالسلم يعني سلمها هي بشروطها وعلى حسابنا، لا السلم الذي نتمناه نحن.
«الاستقرار» الذي أرسته الولايات المتحدة الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية تمثل ببناء سياج من الدول المحيطة بدويلات سوراقيا موال لها، ذلك أن الولايات المتحدة الاميركية كانت تعرف جيداً أن الطريقة الوحيدة للجم الشعور القومي للوحدة، ولهفة السوراقيين للدفاع عن فلسطين يتمثل ببقاء الدول المجاورة حليفة دائمة لأميركا.
أحاط السياج المكون من «إسرائيل» وتركيا وإيران أيام الشاه بكيانات سوراقيا وأرسى قواعد «الاستقرار» الاميركي، أي استقرار وجودها الدائم في المنطقة.
تلاشى هذا الوضع مع نجاح الثورة الإيرانية بالاستيلاء على السلطة وأصبحت المنطقة معرضة لشتى الاحتمالات غير السارة للاميركيين ومعهم «الاسرائيليين». إقامة شرعية جديدة تنبع من أهل هذه المنطقة هو التحدي الحاصل اليوم فيما الولايات المتحدة الاميركية تسلط أنواعاً من الكوارث المميتة فوجاً بعد آخر لمنع أي استقلال عن قراراتها ومصالحها. فهي كانت تسيطر على العراق كلياً عبر حلف بغداد، وبعدها عبر انقلابات متتالية، لكن بدخول إيران في مواجهة معها، اصبح خطر خسارة العراق كبيراً، كما خطر مد خط مقاومة من طهران الى لبنان عبر سوريا.
تحالف الولايات المتحدة الاميركية مع دول «سنية» (دول الخليج، الاردن، تركيا) هدفه تحجيم النفوذ الإيراني وكسر المقاومة تحت شعار محاربة إرهاب الدولة الاسلامية، تماماً كما استعمل جورج بوش ذريعة الارهاب ليستولي على العراق التي كانت خالية من الارهابيين.
لقد حرص الغرب على الا تلتقي دولتان من دول سايكس ــ بيكو أو تنسقان فيما بينهما. ومن المناورات التي اتبعت للوصول الى هذا الهدف مساندة حكم يكن الكراهية لحكام الدولة المجاورة، فما استطاعت دولتان متجاورتان التقارب وايجاد قواسم مشتركة، بل بقيتا تتناحران، كما وجدت الولايات المتحدة الاميركية أنه من الضروري كسر الحلقة الممتدة من إيران إلى المتوسط بانشاء منطقة تحارب الحكم السوري باسم المذهبية.
الحل الذي تعمل له الولايات المتحدة الاميركية
الاتجاه الغالب في الاوساط السياسية ومراكز الابحاث الاميركية والتي هي في مجملها خاضعة للنفوذ الصهيوني، يريد حلاً واحداً: الاعتراف الداخلي لبلدان سوراقيا بأنها مبنية على أسس مذهبية وطائفية، فإما أن تقبل هذه «الحقيقة» وتبقى الدولة كـ«هيكل» ضعيف لا قوة له ولا مركزية بما أن من يسيطر على الدولة ليس قرار المواطنين بل سطوة الطوائف والمذاهب التي ستلجأ الى التنافس على تقاسم المغانم، أو الاحتراب الدائم الذي يفتح المجال للتدخل الغربي بذريعة لعب دور الحَكَم بين الافرقاء المتنازعين.
نحن الموجودين على أرض سايكس ــ بيكو، أمامنا مثال حي لما تحرّض عليه مراكز الابحاث في الولايات المتحدة الاميركية: تعميم نموذج «الطائف» اللبناني على دولتي العراق وسوريا، فهل هذا النموذج نجح في بناء دولة لبنانية، وفي تأمين الاستقرار للبنانيين؟
أولاً، مجرد السماح للطوائف والمذاهب بتقاسم السلطة يعني الغاء الدولة كسلطة مركزية مستقلة عن هذه الطوائف.
ثانياً، التمثيل الطائفي والمذهبي يتعارض مع النظام الديمقراطي والتمثيل الشعبي للبنانيين، وليس صحيحاً أن الميثاق الوطني يؤدي مع مرور الزمن الى ارساء الديمقراطية. العكس هو الصحيح اذ أنه يرسخ التعصب الطائفي والمذهبي كونه يصبح العنصر الاساس في التمثيل السياسي والصراع على السلطة، وهكذا نجد أن الشعور الوطني الذي يريد فصل الدين عن الدولة أقوى بكثير في اربعينيات القرن الماضي مما هو عليه اليوم.
ثالثاً، يلغي هذا النظام أي دور أو حتى وجود للمواطن اللبناني، فيمنعه من ممارسة حقه في التصويت كلبناني، ويجبره على التقدم الى الترشح للنيابة أو الاقتراع بناء على هويته الطائفية والمذهبية، وبالتالي لا تمثيل للبناني كلبناني بحت، كما لا تمثيل للبناني خارج القيد المسلم أو المسيحي.
رابعاً، يقود هذا الوضع الى ازدهار الاحزاب والتحزبات الطائفية واضمحلال الاحزاب العلمانية التي لا وجود لها على الصعيد السياسي كونها لا تستطيع خوض الانتخابات بناء على برامج اقتصادية ــ اجتماعية، بل تُلزم اختيار مرشحين بحسب لونهم الطائفي، وبالتالي تطغى النزعات الخاصة على الشأن العام فتلغيه وتلغي أية امكانية لوجود قواسم مشتركة بين المواطنين.
خامساً، تستمد الطوائف قوتها من ضعف الدولة، ولذلك تعمل على شلل المؤسسات العامة والجيش وعلى قمع المواطن المؤمن بدولته اذ إن الحليف الطبيعي للدولة هو المواطن لا الطائفة.
سادساً، من أجل اضعاف الدولة والطوائف الاخرى تعمد هذه الاخيرة الى طلب المساعدة المادية والعسكرية من دول أجنبية، فتتصرف كل طائفة وكأنها دولة مستقلة بحد ذاتها، تتخذ القرارات التي تناسبها بمعزل عن بقية اللبنانيين ما يقود الى حروب دامية، فالنظام الطائفي يحول دون وجود حَكَم محايد لا طائفي على رأس السلطة يستطيع أن يحل الخلافات بين الطوائف، والحكم الوحيد في هذه الحالة هو دولة خارجية.
سابعاً، يحاول الغرب الاستعماري أن يبرر التمثيل الطائفي على أنه ديمقراطي فيما هو من أشد الانظمة الديكتاتورية ضراوة. فالطائفة تحتكر التمثيل والتشريع والتنفيذ في مؤسسات الدولة وتمنعها عن المواطن، كما أنها تلغي حقوقه السياسية والاجتماعية فلا تسمح له بحرية المعتقد وتمنعه من الاختيار الحر، وتلزمه بمؤازرة خططها تحت التهديد بتحويله الى «صعلوك» منبوذ من الطائفة. كما أن رؤساء الطوائف يظلون على رأس طائفتهم مدى الحياة، ولمدة أطول بكثير من رؤساء جمهورية دول تطالب الولايات المتحدة الاميركية بتنحيهم عن السلطة. لقد احتلت أميركا العراق بحجة انهاء الديكتاتورية، لكنها لا تعترض البتة على ديكتاتوريات الطوائف الممتدة لعقود!
ثامناً، يمنع النظام الطائفي التحديث لأن كل تغيير قد يؤدي الى تحسين وضع طائفة على حساب أخرى، كما يرفض رفضاً قاطعاً دعم المرأة ومشاركتها في الشأن العام بخاصة في ما يختص بمراكز السلطة، لذلك نجد ان دور المرأة اللبنانية في السياسة متقهقر جداً عن وضعها في العراق ما قبل الاحتلال أو في سوريا في العقد الماضي، ذلك أن حزب البعث في البلدين وفر للمرأة امكانية التقدم في المضمار السياسي، بينما النظام الطائفي يعتمد بشكل أساسي على التوجيهات الدينية المرتكزة على النظام البطريركي الذي يريد إبقاء المرأة ضمن الحيز الخاص، اي الاهتمام بالبيت والعائلة، عدا عن أن هذا النظام لا يعتبر المرأة مواطنة كاملة العضوية بما أن أولادها لا يحوزون الجنسية اللبنانية، فالهوية قائمة على صلة الدم عبر الاب لا الأم.
وأخيراً، إن أي استبدال للتمثيل الشعبي بتمثيل قبلي أو عشائري أو طائفي يقود الى تدمير الدولة وفقدان الاستقلالية في القرار والسيادة الشعبية، ففي لبنان ننتظر أن تختار لنا الدول العظمى رئيساً للجمهورية، وأن تزكي دول اقليمية «سنية» نافذة رئيس وزرائنا. ومجمل حديث البحاثة الاميركيين الذي يحض سوريا والعراق على القبول بالنظام الطائفي ليس الا غطاء مخادعاً يخفي رغبة المستعمر الغربي في التحكم بمصيرنا عبر الغاء ارادة المواطن وسيادته على أرضه، فالغرب يعرف جيداً عبر تجربته التاريخية أن لا امكانية لاندماج الوحدات المجتمعية البدائية الا بارساء الدولة القومية التي تستطيع ان تستوعب الجميع.
■ راجع ستيفن سايمون وجوناثان ستيفنسون، «خطة جديدة لسوريا» بالانكليزية، في جريدة «نيويورك تايمز»، 26 أيلول، 2014.
ــ مارينا اوتاوي، «نقصف الدولة الاسلامية، ثم ماذا؟» بالانكليزية، مركز ولسن للدراسات، Viewpoints، عدد 63، أيلول 2014.
* باحثة وأستاذة جامعية