يمرُّ العالِم الألسني الأميركي نعوم تشومسكي بحالة صحية صعبة منذ أسابيع حتى أشيع خبر وفاته ثم تبيّن لاحقاً أن الخبر غير صحيح، وقد نفته زوجته البرازيلية فاليريا ولكنها أكدت أنه «فقدَ القدرة على النطق، ولا يزال يتابع أخبار العالم ومنها أخبار حرب الإبادة الجماعية على غزة ويعبّر عن غضبه وحزنه مما يحدث برفع ذراعه اليسرى احتجاجاً». هذه الحادثة كانت مناسبة لاستعادة تراث وفكر تشومسكي العالِم والناشط التقدّمي النقدي المتضامن مع قضايا الشعوب المكافحة منذ عدة عقود، مثلما كانت مناسبة لدى بعض القصويين من اليسار والمغرضين من اليمين الليبرالي الذين أغاظهم كما يبدو احتفاء الناس بتشومسكي فوجّهوا إليه سهام النقد المتشنّج والظالم أو قلّلوا من شأنه أحياناً بالقول إنه باحث صغير نفخ في صورته الإعلام العربي المقاوم وجعله أسطورة! هنا وقفة تحليلية عند بعض ما أثير حديثاً أو استُعيد من القديم: لم يشفع لتشومسكي موقفه الحازم من دولة الاحتلال ولا اتهامه باطلاً بمعاداة السامية التي صارت تعني «معاداة الصهيونية وحكومتها»، ومنعه من دخول «إسرائيل» والضفة الغربية في العقود الأخيرة، لدى بعض المؤدلَجين والباحثين عن خائن تحت السرير أو بين السطور، والمبالغين في قراءة أخطاء الخصم أو الصديق إلى درجة التشكيك والاتهام بالخيانة، والعنصرية، واعتباره واحداً من «العجول الذهبية التي خلقتها الماكينة الإعلامية للمخابرات الأميركية»، ووصف المدافعين عنه بالقطيع من الجهلة كما كتب بعض المؤدلَجين ممن يختبئون خلف صورة ماركس! وقد تمادى أحد هؤلاء فكتب مقالة اتّهم فيها تشومسكي تهمة مضحكة وكذبة دنيئة مفادها أنه «شارك في تصميم منظومة لُغَوية إلكترونية تَزيد من فاعلية ودِقّة القَصْف الذي تُنفّذُهُ طائرات الفانتوم الحربية الأميركية ضد شعب فييتنام... وساهم في تثقيف ضُبّاط الجيش الأميركي بشأن حضارة ولُغة وعادات وتقاليد الشعوب التي يعتدي عليها الجيش الأميركي» (مقالة في موقع «الأردن العربي» في 25 حزيران 2024!
فحتى إذا افترضنا أن تشومسكي أخطأ في تبنّيه حلّ الدولتين - الذي تتبنّاه منظمة التحرير الفلسطينية «الممثّل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني كما توصف، وغالبية منظمات المقاومة الفلسطينية ومنها «حماس» (التي قال نائب رئيسها خليل الحية: إن الحركة «ستتخلى عن أسلحتها وتتحول إلى حزب سياسي، إذا أقيمت دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967» - مقابلة مع «أسوشيتد برس» 25.04.2024)، حتى إذا افترضنا ذلك، وهو افتراض صحيح من وجهة نظري، فهل يسوِّغ ذلك هذا التشنيع وهذا الحقد على عالِم أميركي يهودي مستقل تعتبره وسائل الإعلام الصهيونية والغربية المعادية عدوها الأول، أم أن وراء الأَكَمَةِ ما وراءها؟
غير أن إنصاف تشومسكي يختلف عن تقديسه ورفض النظر إلى أفكاره بنقدية. فهو لا يحتاج إلى كبير جهد لإنصافه لأنه معروف عالمياً سواء بعلمه الغزير التخصصي أو بمواقفه التضامنية مع الشعوب والحركات التحررية في مختلف القضايا العالمية وفي مقدّمتها القضيتان الفييتنامية والفلسطينية. ولكنه يبقى بشراً يخطئ ويصيب. لقد عبّر تشومسكي نفسه عن نقده لنفسه وندمه على بعض مواقفه المبكرة حتى إنه اتهم نفسه بـ«مهادنة» الكيان الصهيوني في فترة مبكرة من حياته بقوله إنه «بدأ بمعارضة الحرب في فييتنام في بدايات الستينيات وكان عليه أن يبدأ قبلها بسنوات». وبخصوص فلسطين، ذكر أنه لم يبدأ بانتقاد «سياسات إسرائيل الإجرامية» إلا في عام 1969. وأضاف: «وكان يجب أن أبدأ قبل ذلك بكثير، فقد شهدتُ بنفسي ذلك في عام 1953 حين زرت إسرائيل، وكنتُ أعرف القليل من العربية. ورأيت القمع، وكيف يهين الأشكنازُ اليهودَ المغاربةَ. كان يجب أن أتحدث عن كل ذلك. لكنني لم أبدأ إلا بعد 1967 وبعد أن بدأت سياسات إسرائيل التوسعيّة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، كنت مهادناً أكثر من اللازم في نقدي وتأخّرت كثيراً» (اقتبسه الروائي العراقي سنان أنطون - «القدس العربي»، 21 حزيران 2024).
ولكن، بِمَ يتعلّق النقد الذي يوجّه إلى تشومسكي من يساره؟ سأناقش مثالاً عليه في مقالة شهيرة للناشط نوح كوهين نُشرت سنة 2004. ويعتبرها البعض مرجعاً، يبدو وحيداً لكثرة ما تمّ الاستشهاد به، لنقد تشومسكي رغم قِدمه النسبي. وسأعتمد نصها الأصلي في موقع (Znet) في 30 آذار 2004، وكما أعاد نشرها «chomsky.info» بعنوان «العدالة لفلسطين؟»، وليس ما اقتبسه كوهين بطريقته الخاصة.
أشير بدءاً إلى أن نقد كوهين لطروحات تشومسكي الفلسطينية، وإنْ كان متشنجاً شكلاً وأسلوباً، ومتحيزاً أحياناً إلى درجة ضعف الأمانة في العرض، ولكنه ينطوي أحياناً على حجج مقنعة، وخصوصاً في الدفاع عن مشروع الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية الواحدة - الذي أتبناه شخصياً وأدافع عنه - وفي نقد الحجج المضادة للقائلين بحل الدولتين. ولكن هدفي هنا إبراز الفرق بين النقد اليساري الحريص على القضية والمنصف للصديق المختلف فكرياً ورفض التشكيك فيه وتخوينه باعتباره عميلاً للمخابرات الأميركية، والنقد المتشنج والعدائي المتأدلج. وأعتقد أن أفضل تحية لصديق فلسطين المريض نعوم تشومسكي، الإنسان النقدي الصادق والشجاع والذي وصفه الراحل هادي العلوي بعبارة «هذا اليهودي البركاني»، هي أن نقرأه نقدياً من دون مبالغات وافتراءات وإساءات.
إنّ تشومسكي يعطي لرده على سؤال محاورَيه شالوم وبودير طابعاً مؤقتاً ومشروطاً. يقول السؤال حرفياً: «ما هو الحل الأفضل في نظرك للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟»، فيرد تشومسكي: «ذلك يعتمد على الإطار الزمني الذي نضعه في الاعتبار. فعلى المدى القصير، فإنَّ الحل الوحيد الممكن واللائق هو على غرار الإجماع الدولي الذي عرقلته الولايات المتحدة من جانب واحد على مدى السنوات الثلاثين الماضية: تسوية الدولتين على الحدود الدولية - الخط الأخضر». بمعنى أنه لا يعطي رأياً نهائياً صالحاً لكل زمان ومكان كالنصوص الدينية المقدّسة وخارج الظرف السياسي الدولي العام إنما يطرح رأياً لحل على المدى القصير من دون أن يلغي ثوابته المبدئية القديمة. فحين يذكِّره محاوراه بأنه «في وقت من الأوقات، كان يحث على إقامة دولة واحدة ثنائية القومية كأفضل حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهل يعتقد أن مثل هذا الحل مرغوب فيه اليوم؟ هل هو واقعي اليوم؟»، يجيب تشومسكي بالقول: «لقد كنت أؤمن بذلك - الحل - منذ الطفولة، ولا أزال أعتقد بذلك. كان الأمر واقعياً أيضاً من عام 1967 إلى عام 1973 وكتبت عن ذلك كثيراً، لأنه خلال تلك السنوات كان الأمر ممكناً تماماً... وبحلول عام 1973، ضاعت الفرصة، وكان الحل الوحيد الممكن على المدى القصير هو اقتراح الدولتين».
ثم يشير تشومسكي إلى أن هذا الرأي منفتح على المستقبل، على الحل الآخر، حل الدولة الديموقراطية العلمانية، فلا يكتفي بعبارة «على المدى القصير» بل يضيف: «وربما على المدى الطويل، مع تراجع العداء والخوف، وتطور العلاقات بشكل أكثر رسوخاً على طول خطوط لا قومية (non-national lines)، ستكون هناك إمكانية للتحرك نحو نسخة فيدرالية من دولة ثنائية القومية، ثم بعدها ربما نحو تكامل أوثق، وربما حتى إلى دولة ديموقراطية علمانية». ومن الواضح أنَّ هذه التوقعات المتفائلة (بتراجع العداء والخوف) لم يعد لها معنى بعد حرب الإبادة الجماعية المستمرة الآن.
إذاً، فتشومسكي يصف واقع الحال، فيما هو يبحث عن حل سريع يوقف المأساة الفلسطينية، وينفتح على حل آخر هو حل الدولة الثنائية القومية أو حتى على الدولة العلمانية الديموقراطية الواحدة لجميع سكانها.
لم أرد تزكية هذه الفكرة وتأييدها بل تأكيد الطابع المشروط والعملي والمؤقت لها للتفريق بينها وبين فكرة أولئك الذين بدأوا منها وانتهوا إليها معتبرين إياها حلاً نهائياً حتى حين أصبح من المستحيل تطبيقها بسبب تجاوزات ومصادرات وجرائم الكيان الصهيوني. ولكن هل يمكن الموافقة على هذا الفصل الذي يأخذ به تشومسكي، حتى وإنْ كان نسبياً، بين الثوابت الفكرية لحل قضية صراعية كبرى وحلول مؤقتة وظرفية ومشروطة بحالة مأساوية يعيشها شعب من الشعوب؟ وإلى أي مدى يمكن الموافقة على هذا الفصل حتى لو كان أهل القضية، وهم هنا منظمات المقاومة الفلسطينية، من الآخذين به، وعلى أنه لن يؤدي في النهاية إلى الإضرار بالحل المبدئي الدائم؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن توجه إلى خطاب القائلين بالحل المؤقت والظرفي (دولتان لشعبين) وليس عبر التشكيك والاتهامات بالخيانة والعمالة للعدو.
إن الحجج التي يسوقها تشومسكي لترويج حل الدولتين ضعيفة على الصعيدين النظري والعملي، حتى إذا نظرنا إليها حين طرحها قبل عشرين عاماً، ويَصْدُقُ عليها نقد كوهين. فلنعد الآن لنقد هذا الأخير مهملين افتراءات البعض الآخر المهينة. يتمركز نقد كوهين لرؤية تشومسكي لحل الدولتين ومبرراته التي يعضد بها رأيه على نقطتين أو حجتين وردتا في تلك المقابلة.
يستنتج كوهين من كلام تشومسكي «محاولة عامة لإضفاء الشرعية على شكل ما من أشكال الوجود المستمر لنظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي وتعزيز الدعم الخلفي له بين التقدميين الأميركيين». ومن الواضح أن الاتهام بـ«تعزيز الدعم الخلفي بين التقدميين الأميركيين للاستعمار الإسرائيلي»، لا يخرج عن إطار الهجاء والاستنتاجات المتحاملة التي تكثر في النثر الذي يكتبه دعاة اليسارية القصوية غالباً، فتشومسكي هنا لا يريد أن يُشَرْعِنَ استمرار النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي بل يريد إنهاءه عبر حل الدولتين ولكنه مخطئ حين يعتقد بإمكانية ذلك؛ فحتى هذا الحل لم يعد ممكناً، ليس الآن بعد حرب إبادة غزة سنة 2024، بل حتى سنة 2004 حين لم يبقَ للفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية سوى 9,8%، كما يوثّق محمد سعيد دلبح على ص 464 من كتابه «ستون عاماً من الخداع». ثم يضيف كوهين أن حجة تشومسكي تقوم على ركنين يختزلهما في وجوب فصل تاريخ الاحتلال والتوسع الاستعماري الإسرائيلي عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى كحالة خاصة، ويجب إيلاء اعتبار خاص للمستوطنين الاستعماريين الصهاينة باعتبارهم مجموعة ضعيفة تاريخياً، أولاً، وثانياً في أن «الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري أمر غير واقعي؛ إنه يؤذي المستعمَر (the colonized) فقط».
يصف كوهين حجتي تشومسكي هاتين بعد أن صاغهما هو - كوهين - بمفرداته، بأن الأولى التي تجعل اليهود أقلية مضطهَدة هي حجة أخلاقية. وهذا الوصف لا يدحض الحجة من حيث كونها محتملة أم لا، بل يحاول التشويش على جوهرها، فالأخلاق ليست عاملاً يحسب له حساب في المنطق العلموي القصوي الذي يأخذ به كوهين. وربما نجد دحضها الحقيقي في مكان آخر متعلق باحتمال حصول حالة، في سياق مختلف عن سياق التفكير بها. بمعنى، إنّ تشومسكي يسقط فكرة احتمالية قادمة من ظرف بلغ فيه الكيان الصهيوني ذروة قوته وهيمنته، فيسقطها على ظرف مختلف ليس هو ظرف انهياره وتفككه المحتمل. وفي أن القول بالفصل بين تاريخ الاحتلال والتوسع الصهيوني في فلسطين عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى ليس صحيحاً.
ولكن، هل حاول تشومسكي القيام بفصل كهذا، أم أن الأمر يتعلق بالتفريق بين أنواع أو كيفيات وخصوصيات حالات استعمارية أخرى خارج فلسطين؟ أمّا ما يقوله كوهين عن الحجة التشومسكية الثانية حول عدم واقعية الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري الصهيوني هي «الدعوات غير واقعية على أي حال، ولن يستخدمها المتطرفون الصهاينة إلا لتبرير برنامجهم للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين (حجة براغماتية)»، فهو قول يحذف من المقولة طابعها المؤقت والظرفي وهو أمر يحتاج إلى تدقيق. فرغم أنه من الصحيح وصف الحجة بأنها براغماتية، ولكن البراغماتية تبقى محايدة، إذا تعلّق الأمر بجوهرها القائم، كما يقول تعريفها، على اعتبار أن «المقولات والكلمات والأفكار هي أدوات للتحليل والاستشراف وحل المشكلات والعمل، وليست وصفاً أو تمثيلاً للواقع فقط»، قبل وضعه في سياقه الصحيح.
فحين نسأل؛ هل يمكن لشعب يباد جماعياً أمام أنظار العالم أجمع وتصادر أراضي وطنه منه بمشاركة أقوى دولة في العالم المعاصر هي الولايات المتحدة، أن يطالب بإزالة الكيان أو النظام الاستعماري الاستيطاني ككل من الوجود فوراً، أم أنه سيسعى إلى مقاومة المذبحة ومحاولة إيقافها أولاً، ليتمكن بعد ذلك من التفكير بالخطوة أو الخطوات اللاحقة على درب نضاله التحرري الطويل دون نسيان هدفه النهائي؟ هذا السؤال سيقودنا إلى تفحص بعض أوجه النقد الصائب الموجّه إلى آراء تشومسكي بعد وضعها في سياقها التأريخي والموضوعي الصحيح بعيداً عن أي تشنج وإساءات انفعالية وفي ضوء التطورات الأخيرة المتمثلة بحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين بغزة، وهو ما سنحاول مقاربته تحليلياً في وقفة أخرى.

*كاتب عراقي