لم تكن تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، والتي أدلى بها الجمعة الماضي، مفاجئة أو خارجة عن سياق الغزل التركي المتواصل تجاه سوريا؛ إذ سبقتها تصريحات مماثلة عدة لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، توازياً مع تكثيف وسائل الإعلام التركية الحديث عن الانفتاح المرتقب على دمشق، والذي تلعب فيه روسيا والعراق دوراً كبيراً، ويحظى بدعم إيراني وخليجي، غير أن طريق التطبيع بين الدولتين الجارتين لا يبدو بالسهولة التي يتم الحديث عنها. وبشكل عام، ثمة ثلاث قضايا محورية تشكل أساس الحوار بين الطرفين: الأولى تتعلق بالأكراد ومناطق «الإدارة الذاتية» المدعومة أميركياً؛ والثانية تتصل بالشمال السوري الذي ينقسم إلى منطقتين، إحداهما تسيطر عليها فصائل سورية تابعة لأنقرة، وثانيتهما خاضعة لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع تنظيم القاعدة سابقاً في سوريا)، وتنتشر فيها فصائل «جهادية» عدة تضم مقاتلين من جنسيات مختلفة؛ بينما يمثّل اللاجئون السوريون القضية الثالثة.وفي وقت يظهر فيه أن ثمة بوادر توافق بين أنقرة ودمشق حول قضيتي الأكراد (الإدارة الذاتية المرفوضة من الطرفين)، واللاجئين الذين ترغب سوريا في عودتهم وتسعى تركيا إلى التخلص منهم، تشكّل قضية الشمال السوري، الذي تنتشر فيه قوات تركية غير شرعية، عقدة تتشابك فيها عوامل عدة بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي. ففي عام 2018، وقعت تركيا وروسيا «اتفاقية سوتشي» لخفض التصعيد في إدلب، وأتبعتها في عام 2020، بعد سيطرة الجيش السوري على طريق حلب - دمشق (M5)، باتفاقية متممة وقّع عليها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، تعهّد خلالها الأخير بعزل الفصائل الإرهابية في إدلب وتأمين طريق حلب – اللاذقية (M4). إلا أن هذا البند لم يسلك طريقه إلى التنفيذ، بعد أن ربطت تركيا بين ملفي الشمال الغربي (إدلب) والأكراد في ريف حلب الشمالي الشرقي (منبح وتل رفعت)، الأمر الذي تسبب في فشل الجهود الروسية السابقة للتطبيع بين دمشق وأنقرة، في ظلّ إصرار سوري على جدولة انسحاب الجيش التركي، ومراوغة تركيا وربطها ذلك الانسحاب بمتغيرات سياسية وميدانية.
والواقع أن الجمود الذي ضرب الملف السوري على الأصعدة كافة، بما فيها مسار «اللجنة الدستورية»، منح الأكراد وقتاً طويلاً لتنظيم مناطق سيطرتهم، في ظل الرفض الروسي والأميركي لأي عملية عسكرية تركية جديدة تقضم خلالها أنقرة المزيد من الأراضي السورية، بعد أن سيطرت على عفرين وتل أبيض. وبذلك، اقتصرت العمليات العسكرية التركية على القصف الجوي والمدفعي، والذي لم يمنع «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «قوات سوريا الديموقراطية»، في مناطق «الإدارة الذاتية»، من التمهيد لانتخابات محلية يسعى عبرها إلى تثبيت سلطة الأمر الواقع. وفي خضم هذه الظروف، جاء الانفتاح العراقي - التركي، والذي جلاه اللقاء بين رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني والرئيس التركي، ليحرك المياه الراكدة، ويعطي دفعاً جديداً لمسار المصالحة، خصوصاً بالنظر إلى العلاقات الوطيدة التي تجمع السوداني بالرئيس السوري، بشار الأسد، إلى جانب الانفتاح العربي (الخليجي تحديداً) على دمشق، والدفع نحو مصالحة سورية – تركية تفتح الباب أمام الحركة التجارية بين دول الخليج وأوروبا، والتي تمر عبر سوريا وتركيا، ما يتطلب إعادة فتح الطرقات الرئيسية، لتنشأ معادلة اقتصادية جديدة داعمة للانفتاح بين الطرفين تقوم على مبدأ «الكل رابح».
ثمّة معوقات تواجه الانفتاح بين الطرفين، من بينها الموقف الأميركي الداعم لـ«الإدارة الذاتية»


ورغم التفاؤل الروسي بالمساعي الأخيرة، والتي من المنتظر أن تنطلق فعلياً بلقاء سوري – تركي تحتضنه بغداد، ثمّة معوقات تواجه الانفتاح بين الطرفين، من بينها الموقف الأميركي الداعم لـ«الإدارة الذاتية»، والذي ينتظر مصيرُه نتائجَ الانتخابات الرئاسية الأميركية، في ظل رغبة الرئيس الحالي، جو بايدن، في الإبقاء على قواته غير الشرعية في سوريا، ورغبة منافسه، الرئيس السابق دونالد ترامب، في الانسحاب من هذا البلد، وتفاوت علاقة أنقرة بواشنطن في حال صعود أي من الإدارتين. كذلك، تمثّل إدلب وما تحتويه من فصائل «جهادية» مشكلة شديدة التعقيد، بسبب امتداد وجود بعض الفصائل نحو تركيا، ما قد يفتح الباب أمام انتقالها إلى الجانب الآخر من الحدود. كما أن أيّ عملية عسكرية جديدة قد تدفع نحو موجة نزوح إضافية، الأمر الذي يعني مضاعفة أزمة اللاجئين بدلاً من حلحلتها، خصوصاً أن هذه الأزمة تواجه بدورها معوقات أميركية تحول دون معالجتها، أبرزها منع مشاريع «التعافي المبكر» التي تمهّد لعودة اللاجئين، والمحاولات المستمرة لإفشال تنظيم عمليات عودة طوعية من الأردن ولبنان، ومضاعفة العقوبات الاقتصادية لمنع انتعاش الاقتصاد السوري.
وإلى جانب ذلك، ثمة عوامل أخرى ترتبط بمدى قدرة تركيا على فرض رؤيتها السياسية على الفصائل في مناطق نفوذها، بعد أن أظهر بعضها ممانعة لإجراء ميداني بسيط يتعلق بفتح معبر يربط مناطق انتشار الفصائل بمناطق سيطرة الحكومة (معبر أبو الزندين في ريف حلب)؛ إذ تعرض المعبر لهجوم مسلح تم خلاله تدمير عدد من الغرف، قبل أن تتدخل قوة عسكرية تركية وتقوم بالقبض على عدد من المشاركين في الهجوم. والواقع أن عدم اليقين تجاه سطوة أنقرة على جماعاتها، قد يفتح الباب أمام واشنطن لاستمالة هذه الجماعات، عبر مشروعها الداعي إلى توحيد المساحات الخارجة عن سلطة الحكومة السورية، خصوصاً أن وجود أحد الطرفين، أي الفصائل و«قسد»، بات مرهوناً بوجود الآخر، وباستمرار القطيعة السورية – التركية، ما يفسّر تصاعد الأصوات الغاضبة من التحول التركي في الأوساط المعارضة، وفي معاقل «قسد» التي قامت أخيراً بالتضييق على حركة الانتقال بين مناطقها وتلك الخاضعة لسيطرة الحكومة، وحصرت سفر الأفراد بالطلاب والمرضى، وأصدرت بياناً هاجمت عبره مساعي التطبيع القائمة.