قدّم الرئيس السادات للصهاينة ما رفضه عبد الناصر، بدايةً مِن تفكيك الجبهة العربية المقاتِلة في حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، وصولاً إلى مسار سلامٍ منفرد انتهى باتفاقية كامب ديفيد. بعد استجابتها لمنطق التجزئة الاستعماري الصهيوني، خرجتْ مصر مِن الصراع بدعوى البحث عن مصالحها الخاصّة، فنتجَ من ذلك ضعفُ دور مصر وحضورها، وفشلٌ تنموي واقتصادي ذريع، مقابل الحصول على أرضٍ بسيادة منقوصة. سعتْ إسرائيل في مسارات التسوية إلى عَقْد اتفاقيات منفردة مع الدول العربية، وعدم التعامل معها ككتلةٍ واحدة، وفي كلّ مسار تسويةٍ منفرد كانت النتائج مطابقةً لنتائج كامب ديفيد المصري، كما شهدنا في أوسلو ووادي عربة، واستمرّ منطقُ التجزئة الصهيوني في مرحلة الاتفاقات الإبراهيمية، وكان الهدف عزل الفلسطينيين عن بقيّة العرب، بغرض تهميش القضيّة الفلسطينية وإنهائها.
في فتراتٍ سابقة، أثّرت النزعات القُطرية الانعزالية على النقاش العمومي في البلدان العربية، وخطابُ بعض حركات المقاومة حاولَ مداراةَ هذه النّزعات
ما حصل بعد «طوفان الأقصى» بعثرَ الأوراق الأميركية والإسرائيلية، وبرزَ التحدّي المتمثّل في عودة إسرائيل للقتال على أكثر مِن جبهةٍ لأوّل مرّة منذ عام ١٩٧٣، بل إنّ جبهاتٍ عربية فُتحتْ مِن دون تماسٍّ حدودي مباشر. عقيدة التجزئة تدفع الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم إلى استخدام العصا والجزرة مع القوى الفاعلة في هذه الجبهات، في محاولة لتفكيكها وتفريغ الإسرائيليين لإنهاء المَهمّة في غزة. حملات التهويل والتهديد للبنان تأتي في هذا الإطار، وكذلك العروض الأميركية لليمنيين مقابلَ وقف أعمالهم الداعمة لغزة، مترافقةً مع عدوانٍ عسكري.
في حروب العقدين الأخيرين في غزّة ولبنان، كان تضامن الساحات هو أساس عمل قوى المقاومة، فلا تُفتح الجبهات، لكنّ الإسناد اللوجستي والمعلوماتي يظلّ قائماً. طَوّرتْ هذه الحرب تحوّل التضامن إلى شكلٍ مِن أشكال وحدة الجبهات، حيث يرتبط مصير الجبهات بعضها ببعض، وتشكّل ضغطاً على إسرائيل وأميركا. لمْ تصل وحدة الساحات إلى ذروتها بعد، بمعنى تحويل كلّ اعتداءٍ على إحدى الساحات إلى اعتداءٍ على الكلّ، لكنّ هذا التطوّر المتمثّل في الإسناد المباشر بالنار يُعقِّدُ وضعَ إسرائيل، وهو أمرٌ يُبنى عليه لمزيدٍ مِن التوحّد بيْن الساحات والجبهات، وصياغة خطابٍ سياسي يستند إلى هذه الوحدة لمواجهة عقيدة التجزئة الإسرائيلية، عبْر إعادة الاعتبار لوحدة المصير العربي في مواجهة الصهيونية.
في فتراتٍ سابقة، أثّرت النزعات القُطرية الانعزالية على النقاش العمومي في البلدان العربية، وخطابُ بعض حركات المقاومة حاولَ مداراةَ هذه النّزعات، لكنّ الفرصة قائمة اليوم لمقاومة هذه النزعات في وعي الجمهور العربي، وإعادة التأكيد على المصير المشترك الذي يجعل كلّ عربي يتضامن مع ذاته، لا مع الفلسطينيين وحسب، حين يواجِهُ الصهاينة، وفي ذهنه أنّ هذا الكيان عائقٌ أمام تطوّر هذه المنطقة كلّها، وخطره يتهدّد الجميع.
لمْ تُنتِج القُطرية الانعزالية إلّا الخيبات المتكرّرة، ومِن المهمّ التذكير أنها لمْ تَصنَع سوى الفشل داخلياً وخارجياً، عكس دعايتها بأنها تنحاز لازدهار بلدانها، وأنّ الازدهار مرهونٌ بتكامل أبناء المنطقة، ومواجهتهم معوّقات تطوّرهم، وفي مقدّمتها الصهيونية بما هي رأس حربة للهيمنة الاستعمارية.
يسعى الأميركيون والإسرائيليون لعزل الساحات، ليواصلوا هجومهم عليها، كلٌّ على حدة، بجميع الوسائل دون تفريق بينها، ضمْن جبهةٍ واحدة اسمها الغرب الاستعماري، لكن يصعب عليهم العثور على نهج السادات في جبهات الإسناد.
* كاتب عربي