ورد في مقال «هل جرف "طوفان الأقصى" الطائفية؟» للكاتب بدر الإبراهيم في «الأخبار» بتاريخ 31 أيار 2024، محاولة للإجابة عن سؤال أثر «الطوفان» على الطائفية في الوطن العربي. ورغم الطرح النظري الإيجابي الذي يقدّمه المقال حول الحاجة إلى «إعادة الاعتبار للهويات الجامعة»، إلا أنّ جزءاً لا بأس به من المفاهيم المطروحة تستحق النقاش والنقد، تحديداً في ما يتعلّق بالعلاقة بين معارك العقد الأخير الذي كان يُعرف بـ«عُشرية الدم»، وبين «طوفان الأقصى». ولهذا، وبعيداً من نقاش النوايا، من المهم الخوض في بعض المفاهيم المطروحة ومدلولاتها السياسية لأجل القرّاء اليوم وفي المستقبل.يقول الإبراهيم إنّ «طوفان الأقصى أعاد البوصلة من الصراعات الداخلية إلى معركة "الأمّة" مع العدوّ الصهيوني». وهي عبارة تستحقّ النقاش. بدايةً، تتقدّم الإشكالية الأولى عبر اللجوء إلى توصيف أحداث التاريخ كحلقات منفصلة، تحديداً داخل مجتمع مستعمَر يتعرّض إلى العدوان الغربي ذاته القائم على النهب والإخضاع من المحيط إلى ما بعد الخليج. وعلى أهمّية وعظمة حدث «الطوفان»، يفقد التحليل بوصلته حين ينتزع الحدث من سياقه التاريخي ميدانياً وسياسياً.
اعتبار الكاتب أنّ أحداث العقد الأخير عبارة عن «صراعات داخلية» فاقدة لبوصلة فلسطين، يغذّي سرديّة قائمة على الإقصاء التحليلي في مراجعة الأحداث، بنهجٍ شبيه لحملات النقد الذاتي التي أقامها الغالب الأعم من «مثقّفي» الحركة الوطنية اللبنانية بعد انتهاء الحرب الأهلية. هؤلاء خلصوا، بعد انتهاء الحرب، إلى تقزيم الأحداث عبر التركيز على بُعدٍ واحد من أبعادها: الطائفية. وكما في حالة الحرب اللبنانية، لا شكّ بأنّ «الاحتراب الأهلي» واقعٌ قائم في حروب العقد الأخير، لكن اختزال المشهد في هذا الجانب يُسهم في التعمية على جوهر الصراع. سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن، لم تكن المعارك القائمة ببُعدها الإستراتيجي إلا صراعاً بين مشروعين أساسيين: مشروع المقاومة ومشروع العبودية للغرب.
وبالتالي، من المستحيل فصل أحداث هذه المعارك عن المعركة على أرض فلسطين، ما يجعل خطوات قوى المقاومة خارج جغرافيا فلسطين أفعالاً بأبعاد وطنية وقومية وأممية لا تقلّ شأناً عن «طوفان الأقصى» نفسه، وإن اختلفت بالحجم وقوة التأثير. فجوهر الحرب في سوريا، مثلاً، هو تناحر المشروعين، وهو ذاته جوهر كلّ فعل مقاوم على أرض فلسطين.
وإذا ما دخلنا في عالم الاحتمالات الذي لا ينتهي، سنجد بأنّ صمود وتمدّد قوى محور المقاومة في سوريا واليمن كان عاملاً حاسماً في تعزيز فرص وقوع حدث بحجم «طوفان الأقصى». وهذه ليست «منّةً» ولا تقليلاً من فعل المقاومة الفلسطينية، لكنّه الإدراك البديهي لحقيقة الحرب التي خاضها محور المقاومة للحفاظ على خطوط الإمداد واستكمال حصار إسرائيل وتعزيز الثقل السياسي والعسكري بوجه مشروع تفتيت المنطقة وتعزيز الهيمنة الأميركية على مفاصلها.
من هذا المنطلق، يعبّر الحديث عن «الصراعات الداخلية» عن منطلقات انعزالية في تحليل المشهد، وهي فكرة تتعزّز باعتبار «الطوفان» حدثاً «مصحِّحاً» لبوصلة كل قوى المنطقة (بما فيها قوى محور المقاومة)! وهل الصراع في اليمن يُمكن تحليله كـ«صراع داخلي» أضاعت فيه «أنصار الله» بوصلة فلسطين مثلاً؟ أم إن اضطرار «أنصار الله» إلى قتال القوى اليمنية العميلة للعدوان الأميركي كان ضرورة، ليس فقط لتحقيق استقلال القرار اليمني، بل لتعزيز فرص المقاومة الفلسطينية في ضرب عمق العدوّ والاعتماد على حليف قوي مستقل؟
إضافة إلى ذلك، يعبّر مصطلح «الصراعات الداخلية» ودعوة الكاتب قوى المقاومة إلى «توجيه خطابها السياسي لمعالجة آثار صراعات العقد الماضي» عن مغالطة أخرى في التحليل. المغالطة تكمن في التلميح بأن طرفَي الحرب القائمة في المنطقة على حدّ السواء في الموقف والخطاب «الطائفي». وهو ما لا يستطيع أي قارئ إلا أن يستنتجه من توصيف المعارك على أنها «داخلية». وهي فكرة متداولة بين جزء لا بأس به من النخب العربية، ومفادها أن «الصراع الداخلي» كان تائهاً عن بوصلة فلسطين. علماً أنّ قتال قوى محور المقاومة كان قتالاً وطنياً عربياً إسلامياً أممياً، بوصلته الأولى والأخيرة هي فلسطين. لأنّ فلسطين ليست مجرّد قطعة أرض، بل هي عنوان المعركة على المنطقة ومعركة أبناء المنطقة لاستعادة السيادة على أرضهم ومواردهم وثرواتهم.
في المقابل، يتجاهل كثيرون أنّ الجزء الأكبر من القوى المسلّحة في بلادنا هي قوى مموّلة وتقاتل في صف العدوان الأميركي-الصهيوني عبر إصرارها على قتال قوى المقاومة وتعزيز هيمنة أميركا ومحظيّاتها الخليجية على بلادنا. وهي تلك القوى التي وصفها القائد محمد الضيف في رسالته إلى السيد حسن نصرالله عام 2015 بـ«المتخاذلين والمتهافتين والتائهين» واصفاً دماء شهداء الحزب في القنيطرة بأنّها «صرخة مدوّية وصفعة شديدة» بوجه هذه القوى. واتباعاً لنهج الضيف، أصرّ القائد يحيى السنوار عام 2021 على تحية سوريا والتأكيد على دورها المفصلي في تعزيز المقاومة. ومن هنا، يظهر بوضوح أن قادة المقاومة الفلسطينية قد قسّموا طرفَي المعركة إلى فئتين لا ثالث لهما: شريك في المقاومة وأدوات متخاذلة. فكيف يُختزل القتال بين هاتين الفئتين إلى «احتراب أهلي» أو «صراع داخلي»؟
ختاماً، لا شكّ بأنّ لكل اجتهاد حسنة، وهو الذي حتى في خطئه يفتح باباً للاقتراب من الصواب. لكنّ ترديد السرديّات المنقوصة والمشوّهة، وتعزيز الخطاب الانعزالي عبر التفريق بين خطى المقاومة الفلسطينية وخطوات حلفائها في المحور، يجعلان من الضرورة مواجهة هذه المغالطات وأثرها على وعي القرّاء، وخصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة.
لا شكّ بأنّ أبطال «كتائب القسام» قد هبطوا من السماء على أراضينا المحتلّة يوم «الطوفان»، لكنّ الأكيد أنّ «الطوفان» نفسه لم يهبط علينا من العدم، بل مهّدت لحدوثه أرضيّةٌ تتثبّت وتشتدّ مع كل قرار تتّخذه قوى المقاومة في المنطقة لضرب جميع مفاصل العدوان الأميركي على بلادنا، وعلى رأسها القرارات الأصعب والأغلى ثمناً، من «الحسم» في غزة وصولاً إلى «عشرية التضحيات».
* كاتب فلسطيني