في خضمّ نشوة الانتصار الأميركي على الاتحاد السوفياتي بعد منافسة مريرة دامت ما يقارب الخمسة عقود، انبرى العديد من المفكّرين الأميركيين لدعم ومؤازرة فكرة الهيمنة الكاملة والشاملة والأبدية للولايات المتحدة الأميركية على العالم أجمع دون منازع. مع مرور الزمن، تبيّن خطل هذه النظرية المنحازة بشكل كامل للموقف الأميركي، إلا أن ما يستوقفنا هو نجاح الولايات المتحدة في فرضها على دول الخليج عبر الاتفاقيات «الإبراهيمية». ينطلق صامويل هنتنغتون في نصه «صراع الحضارات» (1993) من فرضيتين لا نقاش حولهما: الأولى، لا وجود الآن، أو مستقبلاً، لنشوء دولة تستطيع منافسة الولايات المتحدة الأميركية. والثانية، أن انهيار الدول الوطنية الأخرى تباعاً، سيحوّل المواجهات من صراع أمم إلى «صراع حضارات».
نستطيع أن نستنتج من هاتين الفرضيتين أن التطبيع في المشرق العربي سيكون على أساس التطبيع بين «حضارات» وليس التطبيع بين أمم؛ وأن كلمة حضارات تقتصر فقط على الأديان، ومنها ثلاثة أديان: المسيحية والإسلام واليهودية.
وهكذا استعمل الغرب الاستعماري مقولة «صراع الحضارات» كـ«حصان طروادة» للسيطرة على دول المشرق العربي وتدميرها واستبدالها بهيئات طائفية/دينية تستطيع التحكّم بها؛ إذ إنه بدلاً من النظر إلى المنطلقات القومية/الوطنية التي على أساسها بُني العالم الحديث، استبدلها بمنظور ديني يلغي الشعوب. محاربة المفهوم الوطني/القومي في المشرق العربي ركيزة أساسية في سياسة الولايات المتحدة، لأنّ المفهوم القومي الذي يعطي السلطة للشعب، هو الوحيد الذي يحمي هذا الشعب من تسلط الغرب على مقدّراته وإنتاجه ورؤوس أمواله وموارده الأولية واقتصاده.
اعتبار أن الديانتين المسيحية واليهودية تمثّلان حضارة واحدة، ألا وهي الحضارة الغربية، مقولة غير صحيحة لا نظرياً ولا تاريخياً، فلا المسيحية واليهودية مثّلتا حضارة واحدة، ولا الدين اليهودي مثّل «حضارة» إذ إنه لا يمكن اختزال الحضارة بـ«الدين»، فالحضارة نتاج ثقافي-اقتصادي-اجتماعي لبقعة جغرافية محددة عبر قرون مديدة، والنتاج الديني جزء من النتاج الثقافي. ما فعله هنتنغتون واستعملته الإدارة الأميركية الداعمة للصهيونية، هو احتيالٌ واضح لإيهام الرأي العام العالمي بأن اليهودية حضارة، بينما الحقيقة التي يثبتها التاريخ أن اليهود قبائل تنقّلت بين تخوم إمبراطورية مسيحية وأخرى إسلامية، ولم تستطع بناء «حضارة» لأنها لم تحصل عبر التاريخ على حيز جغرافي مستقل تستطيع عبره بناء إمبراطورية يهودية. وأحد أسباب هذا الفشل أنّ أساس الدين اليهودي قبلي عنصري يرفض الآخر بناءً على العرق، وبالتالي لا إمكانية لديه للتوسّع كما حدث مع الإسلام والمسيحية، وهما ديانتان عالميتان يستطيع أي فرد، وإلى أي قومية انتمى، أن يعتنقهما.
ومن المعروف أن الكنيسة الكاثوليكية التي حكمت أوروبا في القرون الوسطى حاربت الديانتين اليهودية والإسلامية، وليس أدل على ذلك من ما فعلته في الأندلس حين طردت كل من هو مسلم أو يهودي. كما أن نشوء القوميات في أوروبا تمحور حول تحديد عنصري للقومية رافض للوجود اليهودي. إنّ الحضارة الغربية لم تتبنَّ الصهيونية التي تريدها مرادفاً لليهودية، إلا في القرن العشرين، ومن خلال الحملة الاستعمارية الكبرى التي قامت بها للهيمنة الكاملة على المشرق العربي.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين، ثابرت الولايات المتحدة على تفتيت المنطقة العربية عبر تقسيمها طائفياً، وتحضيرها لتطبيق الاعتراف بإسرائيل على أساس أنها دين إبراهيمي كالمسيحية والإسلام، والتغاضي عن سلبها الفلسطينيين أرضهم، فوجدت ضالّتها في إمارات وممالك الجزيرة العربية التي سارع بعضها إلى الاعتراف بإسرائيل، والتخلّي عن فلسطين العربية، لا بل بادرت إلى تغيير كتب التاريخ بشكل يلغي أي تعرّض للصهيونية.
إنّ الولايات المتحدة وبعض مفكّريها يريدون حرف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من صراع على الأرض، إلى صراع ديني هدفه اعتراف العالم العربي بأحقية «اليهودي» في أرض له هي فلسطين، فينقلب الوضع من «دين» لا مكان له، إلى «قومية» وإقامة «وطن قومي» كما صرّح وعد بلفور، ومن بعدها يستطيع الصهيوني أن يتكلّم عن حضارة يهودية، إذ من دون أرض لا وجود لحضارة كما أسلفنا!
هذا المسار كاد أن يؤدي إلى إلغاء الوجود الفلسطيني باسم «الإبراهيمية» الدينية لولا طوفان 7 أكتوبر الذي أعاد طرح الوجود الفلسطيني وحقّه القومي في استعادة فلسطين. ومن الواضح أن الإسرائيليين لن يقبلوا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة لأن وجودها سينفي وجودهم. شرعية فلسطين تعني عدم شرعية الكيان الإسرائيلي الدخيل، لذلك أصاب سماحة السيد حسن نصرالله حين قال في خطابه الأخير إنها حرب وجود بالنسبة إليهم وإلينا.

* أستاذة جامعية