لم يكن يوماً طابع التحرّر الوطني غائباً عن فعل المقاومة العربية للاحتلال الإسرائيلي. لكن بعد السابع من أكتوبر، أصبح هذا المصطلح أكثر تداولاً، خاصة مع تزايد القناعة بأننا لم نعد نواجه عدوّاً مهيمناً اقتصادياً وسياسياً على القرار الوطني فحسب، بل أصبحنا أمام احتلال أميركي فعلي متمثّل بحجم وجوده العسكري المباشر. وما من شك في أن هذا الوجود دليل واضح على أن قوى المقاومة في المنطقة أصبحت على درجة كبيرة من القوة بحيث لم تعد هناك قدرة على احتوائها، لا من الأنظمة التابعة ولا حتى من قبل إسرائيل.وبالرغم من ذلك، فإنّ عدم طرح قوى المقاومة شعار التحرّر الوطني علانية، لا يعني أنها لا تقوم في الواقع بهذه المهمّة. فسوريا -مثلاً- وكذلك إيران والعديد من بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية، دفعت، ولا تزال، كل هذه الأثمان إنّما بسبب انتهاجها لسياسة تحرّر وطني، استطاعت من خلالها الاحتفاظ بالقرار السيادي وقطع التبعية السياسية والاقتصادية.
كذلك هي المقاومة في لبنان وفلسطين؛ حيث إنّ تحرير الأرض هو الشرط الأوّل لكل تحرّر اقتصادي واجتماعي. وبالتالي، فإنّ عدم رفع الشعار جهاراً ربما يخفّف من وطأة المسؤولية أمام المتربّصين، لكنّ المسار التحرّري الوطني لفعل المقاومة، خاصة مع صمود غزة، أصبح أكثر وضوحاً.
إلا أن خيبة الأمل تأتي في الآونة الأخيرة من الأحزاب الشيوعية العربية. الكلمات والعبارات التقليدية المكررة لم تعد كافية، وهي تعكس، في مكان ما، واقع هذه الأحزاب ومأزقها الأيديولوجي، إذ كيف نفهم غياب الخطاب التحرّري الوطني في البيان الأخير لهذه الأحزاب وهو الذي كان يوماً شعارها الأساسي؟ (بيان 20 ديسمبر 2023). كيف استطاعت هذه الأحزاب أن تتجاهل دور دول محور المقاومة والمقاومة الإسلامية في غزة وجنوب لبنان في هذه المعركة الكبرى؟ ونحن في هذا لا نبغي المزايدة ولا المجاملة، بل التأكيد أن كل هذا ليس بصدفة وهو نتيجة مسار تحريفي طال زمنه، أو في أحسن الأحوال أخطاء استراتيجية ناتجة عن عدم تقييم صحيح للمرحلة.
فإذا أخذنا، على سبيل المثال، موقف الحزب الشيوعي اللبناني «الرسمي» على لسان أمينه العام حنا غريب، في حديث إلى إذاعة «سبوتنيك» العربية، لسمعنا ما يندى له الجبين. فهو لا يكل من تكرار سرديّته المُمِلّة حول تلازم المسارين -التحرّر الوطني والاجتماعي- من دون تحديد الأولوية بينهما. فلا تحرّر وطنياً إلا إذا رافقه في الوقت نفسه تحرّر اجتماعي. فلنتصوّر، إذاً، المقاومة الفلسطينية وهي تخوض حربها الوطنية وفي الوقت نفسه تفتح جبهة حرب مع السلطة الفاسدة. إنّ هذا المفهوم الذي يتبنّاه غريب، يطيح بمفهوم التحرّر الوطني من أساساته. لأنه، وببساطة، لا يرى أن سبب وجود الطبقة السياسية التي تعيق التحرّر الاجتماعي هو الاستعمار الإمبريالي نفسه الذي في حال عدم القضاء عليه سوف يعيد إنتاج هذه الطبقة بوجوه أخرى. سوف لن يكون باستطاعة غريب ورفاقه إرساء نظام بديل إذا لم يقطع أولاً مع الاحتلال الإمبريالي.
أسوأ ما وصل إليه الأمين العام في انحرافه هو اعتباره، ضمناً، أن إسلامية المقاومة هي سبب يهودية الكيان الإسرائيلي، وأنها هي المسؤولة عن حرب الحضارات


لكن أسوأ ما وصل إليه الأمين العام في انحرافه هو اعتباره، ضمناً، أن إسلامية المقاومة هي سبب يهودية الكيان الإسرائيلي، وأنها هي المسؤولة عن حرب الحضارات: «نحن نقاتل من أجل دولة علمانية عربية لا تبرّر قيام دولة عبريّة عنصرية يهودية نازية، ونحن لسنا من دعاة تسعير حروب الحضارات». فأي غباء (أو خبث) يحرّك عقول هذه القيادات؟
أمّا السبب الآخر الذي دعا هذه الأحزاب إلى تجاهل إسلامية المقاومة، فهو لأن هذه الأحزاب -التي تتزعمها شرائح من البرجوازيات الصغيرة- لا ترى، بل وحتى لا تريد، أن يكون لها أي دور داعم في البيئة الحاضنة لهذه المقاومة. وهنا المشكلة الكبرى لأنها بذلك تعزل نفسها أكثر فأكثر عن المجتمع المقاوم.
من جانب آخر، إنّ أكثر ما نحتاج إليه اليوم هو تمكين البيئة الحاضنة من أن تكون أكثر فعّالية في مؤازرتها لقيادتها، خاصة في المرحلة المقبلة بعد التحرير، والتي تقتضي فيها وحدة القيادة مع الشعب في إنجاز مهام التحرّر الوطني. طبعاً، الظروف التي يمر فيها العالم مختلفة عن تلك التي كانت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كان إنجاز التحرّر الوطني يعني إقامة نظام اشتراكي بديل عن رأسمالية المستعمِر. أمّا اليوم، فالحد الأدنى المطلوب لأي تحرّر هو وقف التبعيّة الاقتصادية أولاً، ثم تمكين المجتمع من إقامة نظام اقتصادي اجتماعي بديل قادر على تطوير قواه المنتجة ومنافس للنظام الاجتماعي البائد الذي كان سائداً في فترة الاحتلال. وهذه عملية معقّدة وليست سهلة على الإطلاق، إذ إن الأيديولوجيات المختلفة التي تنتمي إليها قوى المقاومة وبيئتها على حد سواء، قد تجعل من الأمر حقلاً لصراعات مريرة، خاصة أن يد الاستعمار الخارجية سوف تبقى دائماً مسلّطة لافتعال الأزمات الداخلية، كما رأينا في إيران وفنزويلا.
لا خيار أمامنا إلا البدء في التحضير لأوسع حوار بين النخب والمكوّنات الاجتماعية الداعمة لخيار المقاومة والتحرّر الوطني. حوار يهدف إلى وضع استراتيجية وطنية لمناهضة الاحتلال الأميركي لبلادنا وإنهائه بجميع الطرق والوسائل التي تكمِّل عمل المقاومة المسلّحة، وإلى وضع برنامج لمرحلة ما بعد التحرير. إنّ مهمّة بناء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بديل لا تقلّ أهمية في المرحلة المقبلة وعلينا أن نكون مستعدّين لها. فلا مجال هنا لخسارة هذه المعركة، وإلا البديل سيكون المزيد من الويلات التي قد تصل إلى الحروب الأهلية.
إنّ الحرب التحرّرية التي تخوضها المقاومة اليوم في غزة تفرض علينا مهمّات جديدة، أدناها يجب أن يتمحور -كما ذكرنا سابقاً- حول ضرورة كسر التبعيّة الاقتصادية. في العالم اليوم قوى اقتصادية كبيرة داعمة لقضايانا، وهناك الكثير من الأفكار الجيدة التي تُطرح في الآونة الأخيرة حول هذا الموضوع: فتح علاقات التعاون مع دول الشرق، وتبني سياسات داعمة للقطاعات المنتجة، الأمر الذي يتطلّب منّا أيضاً العمل على إنهاء بقايا الإقطاع وفتح البلاد أمام الحداثة النيِّرة من خلال إطلاق عملية البحث العلمي وتحرير العقل من التراث التقليدي البالي واستبداله بالفكر التحليلي النقدي. وهذا كلّه لن يكون فاعلاً إلا إذا كان جهداً جماعياً تشترك فيه جميع القوى.
إنّ أكثر ما يعيق تطور مجتمعاتنا اليوم هو هذه اللامبالاة المثقلة بالهموم والفاقدة لأي أمل في التغيير، خاصة عند فئة الشباب. إنّ فكرة التحرّر الوطني عندهم تكاد لا تعني شيئاً. وهذه أيضاً مهمّة النخب من المفكّرين والأكاديميين والمثقفين في أن يجعلوا من التحرّر شيئاً ملموساً وأملاً قابلاً للتحقيق. علينا جميعاً إعادة الثقة لشعوبنا العربية، التي عانت طويلاً من استعمار نكّل بها لمئات السنين، في أنها قادرة على أن تعيد لنفسها مكانة كريمة بين الأمم. إنّ أهم ما تقوم به المقاومة الآن هو إعادة ثقة الإنسان العربي في نفسه وفي قدرته على دحر قوى الاستعمار عن بلداننا وفي أن باستطاعته أن يحلم بغد أفضل.
فهل ننجح في تغيير ممارساتنا ورؤيتنا ليصبح الكلام عن المستقبل جوهر فكرنا اليومي ولنجعل من التحرّر الوطني فكرة مستلهمة للعقول ومحرّكة للتاريخ؟
* كاتب لبناني