منذ زمن ليس ببعيد صرت أمارس تأمّلي عبر بوابة السؤال، الذي من خلال بؤرته الضيقة يفضي بي إلى عالم من المعقولات، وآخر ينفتح على متوقع يشبه الحدس على مدى سبع سنوات وتزيد قليلاً. كانت البداية مع بول ريكور الذي حاول نقد المعرفة عبر أسلوب آخر، قوامه ثلاثة أسئلة، في كتابه تأويل الخطاب وفائض المعنى وهي: الوجود عند أرسطو، والمعرفة عند كانط، والزمن عند هايدغر، وما كان له أن يغفل نقد البنيوية في مضمونها الأوّل عند فيردنيان دي سوسير.غير أن السؤال الذي يغري هو الإمعان والإيغال في هذا العالم المدهش والتقلّب فيه كأنك تنعم بقماش من حرير؛ لأن «جبل الجليد» شيء من التاريخ المكتنز والمتناقض بين مشاعر باردة وأخرى دافئة تشعلها روعة الاكتشاف الواعي وغير الواعي. ومن هنا نقول: إن شتات الفضاء الواسع التي ينفذ إليه بصيص هادئ من المعنى، هو الانفجار اللغوي، الذي يعيد ارتباطه بحدس آخر دفقه اللاوعي فينا، وأبحر بنا إلى عالم اللامتناهيات من المعنى، إنه الحدس المنتج الذي يخلق الفرص، على سبيل إنتاج دلالات مقتنصة تمر في برهة أشبه بالطيف.
كان الزمن باكورة هذا السؤال، وهو مقولة فلسفية معقدة، ولذلك سأحاول مشاغبة السؤال بإثارة منعشة وهي هل الزمن يعيش خارجنا، أم أنه لا وجود إلا انفعالاتنا خارج نطاق الزمن، فنحن مشغولون بالزمن، وفي جوار الزمن يتكون اللاوعي اللغوي لدينا، فالفضاء النصي لا يعيش بلا زمن لأنه يحتاج إلى إجابة يتم بها المعنى. أمّا المفردة فهي خارج نطاق الحقيقة اللغوية، وجبل الجليد هو السؤال اللاهث وراء الإجابة القارة في البنية العميقة، وأقصد بها الوحدة الصغرى لإنتاج دلالة جديدة.
ومرة جديدة أقول إني لست متحمساً لسرد مزيد من الأفكار، أو ممارسة شيء من وصف ما أراه من مفهوم اللغة أو العقل اللغوي، لأني تحدّثت عن ذلك في مقولات عديدة عبر مقالات مختلفة، لكن لعلي أقتفي شيئاً من حقيقة السؤال الذي لا ينتهي، وأبحث في فضاء المعرفة عن البؤر المنتجة إلى المعنى، ثم إني أتساءل من جديد هل سؤال الوجود خلاق على مستوى اللغة، وهل سؤال الوجود يجعل النص أكثر تطوراً وعمقاً، وهل كانت مناظرات المتكلمين مدعاة إلى تطور هذه اللغة أم أنها كانت مدعاة إلى تطور الفكر اللغوي، والسؤال ألم تؤثر الحياة العقلية على شعر أبي تمام وشعر المتنبي؟ حتى قيل أبو تمام والمتنبي حكيمان (والشاعر البحتري)؟
هذه العلاقة الجدلية بين الفكر هي كما ذكرت تنبثق منها معان من فضاء غير محدود عبر اللاشعور من التساؤلات المفتوحة، إذ علاقة التأويل باللغة تقوم على السؤال، السؤال المنتج للمعنى عبر ألوان القوس قزح التي تشي بعلامات تقرأ على أكثر من وجه.
وفي سياق الذكاء الاجتماعي يثير البعض بعض الأسئلة، ترتبط بتطور التكنولوجيا والخشية على فقدان شيء من الخيال، مخافة أن تحل الخوارزميات مكان المجاز. وثمة من يذكر بحقبة الستينيات حين تكشفت حقائق علمية تخالف انطباع الناس، مثل حقيقة أن القمر ليس نوراً وإنما هو تربة، وفي تلك الحين تخوف البعض على مدى الرومانسية، وتحول المزاج إلى مزاج علمي وكأن استعارة القمر هي الفريدة من نوعها، وتوقفت اللغة لديها.
حين لا يدرك الإنسان أن الاستعارة تغادر جمالياتها من فرط تداولها، يصبح أقل حساسية على تذوق الفن، وحين يستهجن المتلقي مثول استعارة جديدة يشي ذلك بعدم القدرة على فهم اللغة. ويوم كان الناس أو بعض المشتغلين في حقل الأدب يبدون خيفة من إدراك أن حقيقة القمر تربة لا نور، فإن خوفهم كان نابعاً من مفهوم، وغاية هذا المفهوم أن الاستعارة تكاد تكون محصورة، وربما لا يمكن التعبير عن جمال المرأة بغير القمر، على أن أولئك الناس لو التفتوا إلى قول طرفة في بيته الشهير «ووجه كأن الشمس حلت رداءها***عليه نقي اللون لم يتخدد» لرأوا أن طرفة أدرك أن الشمس تكسو الوجه جمالاً آخر لا القمر فحسب، بل إنهم، أي شعراء الجاهلية، تغزلوا في المرأة من خلال عين البقرة أو الغزال أو قوام الغزال في الرشاقة.
ولم يستنكف الشعراء من استعارة الملمس الصقيل إلى الرخام من أجل وصف نضارة جسد المرأة، وما أقصده من استعراض هذه الاستعارات هو أن اللغة إفراز لمتغير الزمن أو انعكاس، غير أنه ليس انعكاساً آلياً أو فوتوغرافياً، فالشاعر يقارب الوجود إيحاء لا فوتوغرافياً. ومن هنا يمكن القول، إن الشاعر ليس صحافياً ينقل خبراً فقط عن فتنة جمالية، الشاعر يصوغ الجمال من جديد أو القبح بما وقر في نفسه من ظن لا يتناهى ويتجاوز، وهذا التجاوز هو توقع لا محدود من اللامعقولات رهبة ورغبة، وقيل قديماً عن جودة الشعر، الأعشى إذا شرب، والنابغة إذا رهب، وامرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب؛ فالشرب يلعب بالعقل على نحو لا محدود، وكذلك الرهبة تشعل مخيلة خلاقة، وكذلك الرغبة، وأمّا ركوب امرئ القيس فحالة من الانشراح في فقد لا محصور من الخيال، وهذا ما لا يتوافر للذكاء الاصطناعي.
فنحن أمام جبل جليدي من الانفعالات وأمام جبل جليدي من التوقعات؛ الجبل الجليدي من الانفعالات هو اكتشاف الذات في حال عدم وعيها، وأمّا الجبل الجليدي من التوقعات فهو محاولة سبر ما لدى الآخر من تراكمات جليدية يذيبها انفعالنا أو تعاطفنا مع ما يقول... فهل يستطيع الذكاء الاصطناعي فهم سياقات التواصل الاجتماعي لغة؟ وهي تتراكم بلا هوادة. إنّ اللغة أكثر سرعة من التقييد، وأكثر قدرة على القفز على أسوار المعنى، وبمعنى أكثر وضوحاً اللغة غير ثابتة، وقبولنا الاستعارة في شعر شاعر ما أو في نص أديب ما هو قبول ظني لا حقيقي.

* عالم لغوي بحريني