[نشر هذا المقال على موقع Contretemps بالفرنسية، وهذه ترجمة للنسخة الإنكليزية للمقال والمنشورة على موقع Jacobin* هوغو باليتا، هو مدير موقع «الأزمنة المضادة» - Contretemps]

أثارت حكومة إيمانويل ماكرون غضب الملايين من الفرنسيين بهجومها على نظام التقاعد الفرنسي. لكن قوة الحركة الاحتجاجية الحالية مدينة إلى النضالات السابقة، وللمنظمات التي سمحت بالتحدي المستمر للأجندة النيوليبرالية.
الحركة الشعبية التي تطورت في فرنسا منذ 19 كانون الثاني مثيرة لأسباب عديدة. خلال فترة لا تزيد عن شهرين، غيّرت المناخ السياسي في فرنسا بعمقه، وتسببت بتراجع العقلية الانهزامية المحيطة بهذا المناخ، وزعزعت (بل أرعبت) المدافعين المتحمسين عن النظام الاجتماعي الراسخ والسياسات النيوليبرالية. لقد وسعت توقعات الملايين من الناس الذين انضموا إلى النضال وبالتالي منحتهم إحساساً بقوتهم.
بالاضافة إلى ذلك، فاقمت هذه التحركات أزمة الهيمنة التي تتعمق في فرنسا منذ سنوات. لقد أظهرت مدى عزلة حكومة إيمانويل ماكرون اجتماعياً. أخيراً، تبلور السخط الاجتماعي الذي لم يجد دائماً طرقاً للتعبير عن نفسه سياسياً. لقد تحول إلى غضب محق من انعدام الثقة المعمم لدى جزء كبير من السكان - لا سيما الطبقة العاملة والشباب - تجاه ماكرون وحكومته.

قضية اقتصادية؟
هذا يعني أيضاً أن المشكلة لم تعد تتعلق فقط بـ«إصلاحات» ماكرون للنظام التقاعدي (أو بمعنى أدق، الإصلاحات المضاد). لم يعد الأمر مجرد «اجتماعي» بالمعنى النقابي المحدود. المشكلة سياسية بشكل بارز وكامل: عندما تصبح وطنية، وتأخذ نطاقاً اجتماعياً واسعاً، وتغرس جذورها الراسخة، تصبح الحركة مواجهة ليس مع هذا الرأسمالي أو ذاك (كما في النضال ضد تسريح العمال أو تخفيض الوظائف على مستوى الشركة)، وليس بهذا المقياس القطاعي أو ذاك (مهما كانت الأهمية)، ولكن مع الطبقة البرجوازية بأكملها التي تمثلها وتدافع عنها السلطات السياسية. يمكن لمثل هذه الحركة أن تفتح خط صدع في النظام السياسي، من خلال تغيير علاقات القوة بين الطبقات على المدى الطويل.
تميل الحركات الشعبية الكبرى بطبيعتها إلى طمس الفئات التي تفصل «الاجتماعي الاقتصادي» عن «السياسي». إن مثل هذه الفئات، في الواقع، لا تُفرض إلا بشكل مصطنع على الصراع الطبقي. أي نضال جماهيري - والتحرّك الحالي ليس استثناءً - يتبين أنه اجتماعي وسياسي بشكل لا يُفصل. فهو يستهدف، كهدف منطقي، السلطات السياسية والمصالح الرئيسية التي تمثلها الأزمة الحالية: المالكين والمستغِلين والطبقة المهيمنة.
مثل هذا النضال هو أيضاً أيديولوجي وثقافي، إذ يدعو إلى التشكيك في الروايات التي ينشرها التيار المهيمن لتبرير هذا «الإصلاح» أو ذاك، أو، على نطاق أوسع، يدعو إلى التشكيك في النظام الاجتماعي المهيمن والظلم والاغتراب والعنف الذي يولّده. ولكن هذا التضال أيديولوجي وثقافي أيضاً بمعنى أنه يسمح بشن معركة بين المفاهيم المتناقضة في العالم؛ إنه يشجع على ازدهار رؤى بديلة تُقدّم طروحاً لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع والعلاقات الإنسانية.

التحركات السابقة
تقف الحركة الشعبية الحالية على أكتاف العديد من التحركات السابقة، على الأقل تسلسل النضالات الذي بدأ في منتصف العقد الأول من الألفية. وهذا يعني على وجه الخصوص المعركة ضد مشروع بناء المطار في نوتردام دي لاند، والنضال ضد قانون العمل الذي جعل عقود العمل محفوفة بالمخاطر، وحركة السترات الصفراء، والتعبئة النسوية ضد العنف الجنسي وعدم المساواة بين الجنسين، وحركة عامي 2019-2020 ضد إصلاح نظام التقاعد، وجميع النضالات (لا سيما مناهضة العنصرية) ضد جرائم الشرطة وكل أشكال العنف الذي تمارسه الدولة. التحرّك الشعبي الحالي يدمج ويعبر عن إنجازات الحركات السابقة ويطورها، سواء من حيث أساليب وتكتيكات النضال أو من الناحية الأيديولوجية.
ومع ذلك، هناك أيضاً اختلاف لا يمكن تجاهله بين الحركة الحالية والتحركات السابقة. يكمن هذا في القوة المتنامية والقتال المتزايد لليسار البرلماني، ولا سيما أربعة وسبعون نائباً عن «فرنسا الأبية». لقد ساهموا بشكل كبير في تسييس وتطرف التحرّك التي أرادت معظم النقابات - ولا سيما الاتحاد الديموقراطي الفرنسي للعمل (CFDT) - الإبقاء عليها في مجال «اجتماعي» بحت.
وبالتالي، يسعدنا أن معظم نواب «فرنسا الأبية» الجدد لم يسعوا أبداً إلى مواجهة المعركة البرلمانية (بوسائل عملها الخاصة) مع الأساليب الكلاسيكية للنضال الطبقي: مظاهرات الشوارع وخطوط الاعتصام (التي رأينا مراراً وتكراراً ظهور هؤلاء النواب فيها بما في ذلك رئيسة مجموعة «فرنسا الأبية» البرلمانية، ماتيلد بانو).

توسّع وتكثيف
كل جهودنا يجب أن تتجه نحو توسيع وتكثيف الحركة حتى النصر. لا نعرف إلى أي مدى يمكننا أن نذهب، ولكن حمل الحكومة على التراجع عن «إصلاحها» هو الحد الأدنى. في السنوات القادمة، سيحسب هذا النصر مرتين أو ثلاثة، على وجه التحديد لأن ماكرون سعى إلى جعل هذا الإصلاح أم كل معاركه، اختبار قوة من شأنه أن يسمح له بتعزيز سلطته حتى نهاية رئاسته في عام 2027 وبدء التدمير الكامل للفتوحات الاجتماعية للطبقة العاملة في القرن العشرين.
بصفته ثاتشرياً، تعلّم دروسه جيداً (من الثورة المضادة النيوليبرالية)، يعرف ماكرون أنه بحاجة إلى كسر أكثر القطاعات قتالية في الحركة الاجتماعية. لأنه يعلم أن هذا سيزرع اليأس بين غالبية الذين يحشدون حالياً ويقيمون الإضرابات والمظاهرات، حيث يقوم كلاهما بعرقلة الأمور وإنشاء كتلة خاصة بهما مع هدف - أكثر أو أقل وضوحاً - يتمثل في عالم من المساواة والعدالة الإجتماعية.

عنف الدولة
في هذه المواجهة، أشارت حكومة ماكرون، قولاً وفعلاً، إلى أنها مستعدة للذهاب إلى أبعد ما يكون. وهذا بدوره يؤجج تسييس التحرّك الشعبي، من خلال استخدام القمع البوليسي الشامل. لكسر أي أوهام قد تكون موجودة بأن حاكم شرطة باريس الذي عُيّن أخيراً أقل قسوة من سلفه، كانت التدخلات في الأيام الأخيرة من قبل «قوى النظام» وحشية للغاية.
تم تطبيع هذه الوحشية وجعلها روتينية على مدى السنوات العشر الماضية؛ لا يتعلق الأمر «بالأخطاء» أو «الهفوات» بل بالأفعال العادية للشرطة التي تمر بعملية تحوّل نحو الفاشية. لكن عمل الشرطة يتميز أيضاً ببعض الفوضى، حيث يواجَه بالعدد الهائل من المتظاهرين بعد استخدام المادة 49.3 لدفع إصلاح نظام التقاعد من خلال البرلمان دون تصويت.
في أقلية صغيرة من عامة السكان، فرضت الحكومة سلسلة من المناورات المؤسسية النموذجية للجمهورية الخامسة (التي يعتبر دستورها، كما نعلم، بعيداً عن جميع معايير الديموقراطية، حتى الحد الأدنى منها). لم ينجح معسكر ماكرون ومنظّروه في إقناع الناس بأن العنف يأتي من المتظاهرين أو أن عنف الشرطة أسطورة اخترعها «البرابرة المتعطشون لدماء رجال الشرطة»، بسبب تراكم مقاطع الفيديو وروايات الشهود عن عنف الدولة.
كل من هذه المناورات والقمع الوحشي للتحركات في الأيام الأخيرة قد أتاح فرصة لحملة ضد الاستبداد وللحرية السياسية. في تواصل وثيق مع فترة ولاية ماكرون الأولى وحكومتي فرانسوا هولاند ومانويل فالس في الفترة ما بين 2014 و2016، تتيح هذه الإجراءات القوية طرح مشكلة المؤسسات البونابرتية للجمهورية الخامسة، والحاجة إلى الانفصال عن الإطار الدستوري الحالي، على نطاق أوسع، من خلال جمعية تأسيسية، وإمكانية إقامة ديموقراطية حقيقية، ولو على المستوى المؤسسي فقط.

«حركة ما قبل الثورة؟»
بطبيعة الحال، بدأت النقاش الآن بين اليسار الفرنسي حول كيفية وصف الوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. تحدّث البعض، من خوان تشينغو إلى فريديريك لوردون، عن «لحظة ما قبل الثورة»، كما لو كان «هناك حاجة إلى دفعة واحدة فقط لكي ينهار النظام بأكمله» (جاك رانسيير). والنتيجة الطبيعية لهذا التأكيد، على الأقل في مقال تشينغو، هي أن العائق الرئيسي (أو حتى الوحيد) الذي يمنع البروليتاريا من الانخراط في النضال الثوري يعود الآن إلى «القيادات النقابية» - أو «قيادة الحركة العمالية»، أي القيادة النقابية المتحالفة.
في الواقع، بقدر ما أصبحت البروليتاريا «ككل» - كما قيل لنا - راديكالية من قبل التحركات، فإن سلطة السلطات اليوم معلقة بخيط قدرة القيادات النقابية على توجيه الغضب الاجتماعي: لذا، «إن هذه الحركة النقابية هي آخر صمام ضغط طارئ لنظام الجمهورية الخامسة المتضرر من الأزمة». علاوة على ذلك: «يمكننا القول أن العقبة الرئيسية أمام لحظة ما قبل الثورة للتحول إلى حالة ما قبل الثورة علانية، أو حتى إلى حالة ثورية، تكمن في القيادة المحافظة والمؤسسية للحركة العمالية».
مثل هذا الادعاء مهم. حتى لو كانت المنظمات التي تدعم مثل هذا الخط ضعيفة، فإن المشاكل التي يطرحها تعكس مخاوف مشتركة على نطاق واسع بين القطاعات القتالية في الحركة الاجتماعية. هذا له عواقب واضحة: إذا أخذ المرء مثل هذه التأكيدات على محمل الجد، فإنه يترتب على ذلك أن الشجب الفوري لـ«قيادة الحركة العمالية» هذه يكتسب دوراً مركزياً تماماً لجميع أولئك الذين يعملون من أجل تغيير جذري في المجتمع، فضلاً عن بناء قيادة حركة مختلفة وبديلة عن التنسيقية النقابية.

تحرك نقي كيميائياً؟
يكمن الخطأ الأول في هذا المنطق في التقليل من شأن بعض الحدود التي تقوّض هذا التحرّك الشعبي. يجب أن تؤخذ مثل هذه الحدود على محمل الجد إذا أردنا التغلب عليها بوسائل أخرى غير الحيل البلاغية، التي تهدف فقط إلى إقناع المقتنع، أو من خلال الدعوة إلى الطوعية، التي لا تجذب إلا المستعدين بالفعل للتصرف..
تعني هذه الحدود الحالية أنه في حين أن هذه الحركة قادرة على جعل ماكرون يتراجع عن مشروع لإصلاح النظام التقاعدي وربما في جميع الإصلاحات المخطط لها لفترة ولايته التي تبلغ خمس سنوات، فإنها ليست - في هذه المرحلة على الأقل - قادرة على أن تؤدي إلى وضع ثوري. إذا كان التطوع العسكري للأقلية ضروري للغاية، فهو ليس وحده كافٍ للتغلب على نقاط الضعف هذه والانتقال من الاحتجاج الاجتماعي - مهما كان واسعاً وجذرياً - إلى الثورة. هذا صحيح حتى في وضع مثل الوضع الحالي، والذي يتطلب موضوعياً انفصالاً سياسياً وتحولاً ثورياً، في اتجاه بيئي اجتماعي ونسوي ومناهض للعنصرية.
لا تكون الثورة أبداً «نقية كيميائياً» أو تعمل بدليل مكتوب مرة واحدة وإلى الأبد. لكنه يفترض مسبقاً أن بعض العناصر التي من دونها يُعتبر الحديث عن «لحظة ما قبل الثورة» هو مجرّد تمنٍّ (أو تكتيكات الترويج لمجموعات مسلحة صغيرة) أكثر من كونها فرضية استراتيجية. بقدر ما تكون السمة الأساسية والمميزة للثورة هي المظهر الحازم لازدواجية السلطات (بين الدولة البرجوازية وأشكال السلطة الشعبية خارج الدولة، ولكن أيضاً داخل الدولة نفسها)، فإن لحظات ما قبل الثورة تفترض مسبقاً بعض المكونات: وهو ما يترتب على ذلك من إغلاق للحياة الاقتصادية، ومستويات كبيرة من التنظيم الذاتي، وبداية للمركزية والتنسيق الوطني للحركات النضالية، وكذلك تصدعات في جهاز الدولة، وبشكل أوسع، في الطبقة الحاكمة.
كل هذه العناصر مفقودة في الحركة الحالية.
لا يوجد سوى عدد قليل من قطاعات الاقتصاد التي تشهد نشاط إضراب حقيقي (وحتى أقل من الإضراب المتداول)، وهي قطاعات عامة أو شبه عامة (جامعي القمامة، والسكك الحديدية، والكهرباء، والتعليم الوطني، وما إلى ذلك). عدد قليل من الشركات الخاصة الكبيرة توقّف فيها العمل، بما في ذلك في أيام التحركات النقابية الكبرى (باستثناء بعض القطاعات مثل مصافي النفط).
علاوة على ذلك، حتى في القطاعات التي يكون فيها إضرابات بحجم معيّن، فإن التنظيم الذاتي في إطار الجمعيات العمومية ولجان الإضراب ضعيف جداً، حتى بالمقارنة مع التحركات السابقة.
ظهرت تجمعات تجمع نشطاء من قطاعات مختلفة (كما حصل في عامي 2019-2020)، لكنهم يمثلون أقلية متطرفة بالنسبة للحجم الكلي للتحرّك الشعبي (ناهيك عن الطبقة العاملة ككل)، لا سيما بالمقارنة مع «Interpros»، (التعبئة الشاملة خلال الحركة الناجحة ضد إصلاح نظام التقاعد في كانون الأول 1995)؛ يبدو أنها وسيلة للجماعات المسلحة الصغيرة لزيادة جمهورها وبناء نفسها، أكثر من كونها وسيلة حقيقية للتأثير على تمديد وتكثيف الإضراب.
أخيراً، لا يزال جهاز الدولة ثابتاً (لا سيما جهاز الشرطة والجيش والعدالة القمعي) ويستمر أرباب العمل في دعم ماكرون (حتى لو بدا أن هذا الإصلاح لم يكن ملحّاً بشكل خاص بالنسبة لهم).
كل هذه القيود لا تقلل بأي شكل من الأشكال من قيمة التحرّك الحالي. ربما ستسمح لنا الأسابيع القادمة بالذهاب إلى أبعد من الوضع الحالي. لكن التعريف الصحيح للمهام والاستراتيجية يعتمد على التشخيص الصحيح لحقيقة الأمور. في هذا الشأن، لا مجال للرضى عن النفس والاكتفاء بما حصل حتى الآن.

ما مدى توسّع التحرّك؟
الخطأ الثاني، الذي ينبع من الأول، هو التظاهر بحل ما ينبغي أن يكون مشكلة استراتيجية رئيسية للحركة، وكذلك للنقابات والمنظمات السياسية في الفترة المقبلة. من خلال الادعاء بأننا شهدنا في الشهرين الماضيين «تطرف البروليتاريا ككل»، فإننا نتجاهل حقيقة أن العداء العام والخطير تجاه ماكرون لا يعادل بأي حال من الأحوال وعياً جماهيرياً مناهضاً للرأسمالية (علاوة على ذلك، من الضروري محاربة عملية إضفاء الطابع الشخصي المفرط على ماكرون وإضفاء الطابع النفسي عليه، مما يجعله «مجنوناً» وما إلى ذلك، عندما يكون قبل كل شيء وكيلاً لرأس المال). وفوق كل شيء، لا ينبغي أن نقلل من حقيقة أن أغلبية كبيرة من البروليتاريا لم تدخل التحرّك في الواقع.
من المؤكد أن العمّال - جميعهم تقريباً - يعارضون قانون الإصلاح ومعادون لماكرون. ومع ذلك، لا يزال معظمهم يقفون على الهامش. لقد تظاهر جزء صغير فقط من الطبقة العاملة ولم تشارك الغالبية العظمى بإضراب - في الواقع، لأسباب مادية لا يمكن تجنبها (انعدام الأمن في الأجور، ضغط الإدارة، إلخ). علاوة على ذلك، فإن مستوى التنظيم الذاتي، بشكل عام، أقل مما كان عليه في التحركات السابقة (بما في ذلك التحركات الأخيرة مثل تحركات في 2019-2020، لا سيما في شركة السكك الحديد الحكومية، وحتى أكثر من تحركات كانون الأول 1995). التنسيق بين القطاعات إمّا غير موجود أو ضعيف للغاية ومتقطع.
لقد أصبح التحرّك الشعبي بالفعل أكثر استقلالية منذ فرض المادة 49.3، حيث تنظم الأنشطة اليومية في جميع أنحاء فرنسا دون موافقة بين التنسيقية النقابية وباستخدام أساليب أكثر هجومية للنضال. تبدو الجمعيات العامة أكثر ازدحاماً في الأيام القليلة الماضية. لكن لا يزال النظام متعدد الجوانب هو الذي يحدد نغمة وإيقاع الحركة، ولا يوجد أحد حالياً - من قريب أو بعيد - في وضع يسمح له بمنافسة هذا الدور.
قد يتم الاعتراض على أنه، حتى في العملية الثورية، لا يتحرّك المستغلين والمضطهدين بأكملهم. ولكن، لنأخذ حالة فرنسا فقط، فمن المقدر أنه في أيّار وتموز 1968، كان هناك ما يصل إلى 7.5 مليون مضرب (وتم حشد 10 ملايين شخص) في بلد كان فيه عدد العاملين في ذلك الوقت أقل بكثير (حوالي 15 مليوناً، مقابل أكثر من 26 مليوناً اليوم). بسبب الإغلاق الواسع النطاق للاقتصاد لعدة أسابيع، والعدد الكبير من المهن في أماكن العمل والفوضى الأولية للسلطات السياسية، كان الوضع يدلّ على حالة ما قبل الثورة (على الرغم من محدودية التنظيم الذاتي، الذي لم يسمح ظهور المجالس العمالية)، وقد أعطى ذلك مهاماً ذات طبيعة خاصة للنشطاء المقتنعين بضرورة الانفصال الثوري (داخل الحزب الشيوعي والمنظمات اليسارية المتطرفة).

البكاء على الخيانة
لا يتم تفسير الصعوبات التي تواجه التحرّك من خلال الدور الضار الذي تلعبه التنسيقية النقابية. في هذه النقطة، لا يمكننا أن نكتفي بالتفكير الدائري، الذي يخبرنا فقط: إذا لم يكن هناك تنظيم ذاتي، فذلك لأنه ما يوجه الحركة هو التنسيقية النقابية؛ وإذا كانت التنسيقية هي من تحدد نغمة التحركات، فذلك لأنه لا يوجود تنظيم ذاتي.
كان لفرضية القيادات الخائنة التي تمنع تحول التحرّك إلى عملية ثورية حقيقية أساس موضوعي على الأقل في عام 1968، وهو ما يستحق النقاش. في ذلك الوقت، كانت هناك نقابات عمالية قوية، وأهمها - الاتحاد العام للعمال (CGT) - كان يقودها الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) مع قاعدة عريضة من الطبقة العاملة وجمهور انتخابي كبير (أكثر من 20%).
أعاق الحزب الشيوعي الفرنسي أشكال التنظيم الذاتي التي كان من الممكن أن تظهر في أماكن العمل، لصالح إضراب سلبي بشكل عام (حيث تمت دعوة العمال إلى عدم التدخل بشكل مباشر ولكن السماح لمسؤولي النقابات بقيادة الطريق). كما رفض الحزب اتخاذ المبادرات الجريئة التي كان من الممكن أن تجعل إثارة مسألة السلطة وتمزّق السلطة، خاصة خلال الأيام أو الأسابيع القليلة التي بدت فيها حكومة شارل ديغول في نهايتها، مصدومة من حجم الإضراب وبتصميم الحركة الطلابية.
الوضع مختلف جذرياً اليوم: النقابات أضعف بكثير، على الأقل مقارنة بما كانت عليه في عام 1968، ولم يعد هناك حزب عمالي جماهيري. إذا اتبعنا فرضية تشينغو القائلة بأن القادة يكبحون التشدد، فمن المفترض أن يفتح هذا الأمر الطريق أمام إضراب عام. العكس هو الصحيح، لأنه في القطاعات والمؤسسات حيث يوجد معظم أعضاء النقابات، وحيث تستمر النقابات القتالية في الظهور، يتم التعبير عن أقوى نزعة تجاه الصدام.
على العكس من ذلك، فإن القطاعات والشركات التي ليس لها وجود نقابي - تلك التي يتم فيها التعبير عن جهوزية الجماهير للعمل الراديكالي بطريقة لا تعيقها «قيادة الحركة العمالية» - هي تلك التي يتم فيها التفتيت، والسلبية، وحتى حيث يزدهر تصويت اليمين المتطرف.
يمكننا أن نرى في الجامعات مدى صحة هذه الحجة حقاً: في حين أن النقابات ضعيفة للغاية هناك، واجه النشطاء الحاضرون أكبر صعوبة، على الأقل حتى الآن، في ظهور هياكل واسعة للتنظيم الذاتي (معظم التجمعات، حتى وقت قريب، لم تحشد سوى بضع مئات من الطلاب)؛ وحتى في الجامعات التي عرفت مؤخراً بعض التجمعات الكبير (جامعة تولبياك، جامعة تولوز ميرايل)، يقف الانغراس الضعيف للمنظمات الطلابية عقبة أمام التوسع والتنظيم الذاتي للحركة.
بعبارة أخرى ، إذا كانت البروليتاريا متطرفة ككل بالفعل، وإذا كانت القيادات النقابية تشكل القفل الوحيد الذي يجب كسره من أجل بدء هجوم ثوري، فسنرى تطور النضالات الراديكالية والأشكال المتقدمة للتنظيم الذاتي في القطاعات التي يكون فيها غرس النقابات هو الأضعف، أي حيث تكون قبضة هذه القيادات هي الأكثر هشاشة. وهذا الأمر بعيد كل البعد عن الواقع الحالي.
إن فكرة استبدال القيادة النقابية (الإصلاحية) بقيادة ثورية حقيقية لها كل مزايا البساطة وجميع مساوئ التبسيط المفرط (إن لم تكن غير واقعية عندما يُنظر إلى «القيادة الثورية البديلة» الشهيرة على أنها نتاج العمل المتمحور حول الذات للمنظمات الصغيرة). بالطبع، يمكن للمرء أن يعتقد أن سياسة أكثر قتالية من بين التنسيقية النقابية - دعوة أوضح لمواصلة الإضراب من يوم إلى آخر والمشاركة في التجمعات العامة، وما إلى ذلك - كانت ستؤدي إلى تحقيق إنجازات أكبر. لكننا نتطرق إلى حدود إطار الحراك الحالي، الذي هو أيضاً أحد نقاط قوته: الوحدة التي تحافظ عليها الجبهة النقابية، والتي من دونها كان من المشكك به أن تكون الحركة قد اكتسبت هذا الحجم واستقبلت هذا الدعم الشعبي.
في الفترة الحالية والمستقبلية، يبدو أن هناك بدلاً من ذلك تحديات مختلفة للنشطاء الذين لا يريدون التخلي عن منظور ثوري أو العمل داخل الحركة الحقيقية. وهذا يعني توسيع انتشار النقابات إلى ما وراء القطاعات التي تم حشدها حالياً، وتقوية «الأجنحة اليسارية» داخل المنظمات النقابية، مما يساهم في ظهور تيارات أو حركات راديكالية جديدة (خارج المنظمات التقليدية ولكن تعمل في التعبير معها، وليس معارضةً لها)، ما يعمّق العمل السياسي الثقافي الذي يأخذنا من كراهية ماكرون إلى نقد النظام ككل، وأخيراً إلى ضرورة التمزق المناهض للرأسمالية لبناء مجتمع مختلف تماماً.

الوعي السياسي
من النقاط الرئيسية في فهم الوضع الحالي هو الوعي السياسي المتنوع بين العمال والشباب. من المؤكد أن منظور التمزق المجتمعي المناهض للرأسمالية وبناء مجتمع آخر، قد تقدم بين السكان في التسلسل من 2016 إلى 2023، لكنه لا ينمو بنفس سرعة الكراهية العميقة للسلطات السياسية، ولا سيما تجاه ماكرون. لدرجة أن المشاعر المعادية لماكرون بشكل عام، والعداء تجاه إصلاحاته للنظام التقاعدي بشكل خاص، يمكن أن يفيد بالتأكيد اليمين المتطرف.
أظهر استطلاع حديث إلى حد ما (في نهاية شباط) أن مارين لوبان هي الخصم الرئيسي للمشروع الإصلاحي لماكرون (متقدمةً بقليل على جان لوك ميلينشون)، لا سيما بين الطبقات الشعبية، على الرغم من أن «الجبهة الوطنية»، حزب لوبان، لا يقترح العودة إلى سن التقاعد السابق، البالغ 60 عاماً، ويعارض الإضرابات المتدحرجة.
حدثت تحولات جزئية في بعض التحركات، لكنها تؤثر جزئياً فقط على الطبقات والكسور الطبقية التي تشكل مركز ثقلها. وهكذا كانت حركة «السترات الصفراء» مسرحاً لعملية توضيح وتطرف سياسي. ومع ذلك، فقد تغلغل هذا فقط في شريحة محدودة من الطبقات العاملة، بما في ذلك تلك الشرائح التي كانت الأكثر ملاءمة للحراك، في المناطق الريفية أو شبه الريفية وكذلك في المدن الصغيرة.
يظهر هذا الأمر بشكل أكبر نظراً لوجود فجوة كبيرة بين التعاطف الكسول تجاه التحرّكات (والذي يمكن أن تكون واسعاً للغاية، كما هو الحال الآن، وبدرجة أقل في بداية حركة «السترات الصفراء») والمشاركة الفعلية فيها (خاصة عندما تكون هذه المشاركة محدودة عند الذهاب إلى واحدة أو أكثر من المظاهرات، التي يكون تأثيرها السياسي أقل بكثير من الإضراب، بل وأكثر من ذلك عندما تستمر الأخيرة وتعتمد على مشاركة واسعة النطاق في الجمعيات العامة).
ومن ثم فإن إحدى المشاكل الجدية التي تواجه اليسار الاجتماعي والسياسي هي القدرة على الحفاظ على الحراك وتعميقه، مع مدّها إلى قطاعات أو عناصر من الشباب حيث مستوى الوعي الطبقي - الذي يتميز بالتنظيم الجماعي، ولا سيما في النقابات، والتعبئة من أجل مصالح الفرد، على أساس تمثيل واضح ومتماسك إلى حد ما لهذه المصالح - هو مستوى أدنى بكثير.
في هذه القطاعات الأخيرة وفي هذه الشرائح الكبيرة من السكان، الرهانات بعيدة كل البعد عن التصريحات العظيمة حول «لحظة ما قبل الثورة»: فالهدف بسيط هنا، وهو النجاح في جذب العمّال بشكل جماعي نحو اليوم الأول للإضراب والمظاهرة، وحملهم على المشاركة في الجمعية العامة لاتخاذ قرار جماعي بشأن وسائل المواجهة، إلخ. من هذا المنظور، فإن الشعار الميكانيكي والمجرّد للتنديد بـ«القيادات الخائنة» ليس فقط منعطفاً زائفاً، ولكنه غالباً ما يمثل عقبة في حد ذاته.

النتائج السياسية
من الواضح أن مسألة النتيجة السياسية للحراك قد أثيرت. لا تولّد التعبئة الاجتماعية - مهما كانت ضخمة وجذرية - وجهات نظر سياسية بشكل عفوي، خاصة عندما تتفادى، عن طيب خاطر، مسألة السلطة والمواجهة السياسية الضرورية (ما سمّاه دانيال بن سعيد «الوهم الاجتماعي»).
كل هذا صحيح في الحالة الراهنة حيث اتسم الحراك حتى الآن بمستوى منخفض من التنظيم الذاتي والتنسيق. ومع ذلك، هذا لا يعني أن الحركات الاجتماعية يجب أن تكتفي بدور ثانوي في مواجهة القوى السياسية، التي ستكون وحدها قادرة على طرح وجهات النظر. الموضوع يتعلّق بشكل أكبر في إطار جدلية التعاون - المواجهة بين الحركة الاجتماعية واليسار، والوحدة التي لا تمنع النقاش الأكثر انفتاحاً حول التوجهات ووجهات النظر، يجب أن نتخيل اقتراحاً سياسياً للانفصال.
لنبدأ بالقول إن منظور «استفتاء المبادرة المشتركة» بشأن إصلاح النظام التقاعدي - الذي دافع عنه على وجه الخصوص الحزب الشيوعي الفرنسي - لا يرقى إلى مستوى الاحتمالات التي فتحها الحراك. إنه لا يستجيب بأي شكل من الأشكال لضرورة اليسار لدفع حل للأزمة السياسية. علاوة على ذلك، ستطالب بجمع 4.8 مليون توقيع، الأمر الذي سيتطلب قدراً كبيراً من العمل ذي الطابع الشرس لمدة تسعة أشهر.
سيؤدي هذا إلى تحويل الطاقات إلى منطقة عمل التماسية، في حين أن ما هو مطلوب الآن هو تمديد التعبئة - حيث يعلن معسكر ماكرون بالفعل عن مشاريع مميتة جديدة (ليس فقط قانون وزير الداخلية جيرالد دارمانين ولكن أيضاً قانون العمل والتوظيف). علاوة على ذلك، حتى لو تم جمع 4.8 مليون توقيع، فإن اقتراح الاستفتاء سيظل قيد الدراسة من قبل مجلسي البرلمان في غضون ستة أشهر. سيكون الوضع قد تغير إلى حد كبير بحلول ذلك الوقت، ربما على نحو يضر بالحراك، ولا يساعد مثل هذا الاقتراح بأي حال من الأحوال على دفع المزايا التي يتمتع بها الحراك حالياً: إضراب متجذر في عدة قطاعات رئيسية، وتعبئة متعددة الأوجه أصبح من الصعب الآن السيطرة عليها، والرأي العام الذي كسبه إلى جانبه إلى حد كبير.
في بعض الأحيان نرى فكرة أن هذه الحركة يجب أن تكون مثل تحرّك أيّار 1968، بحيث يكمل الطريق حتى النهاية. هذا الشعار جذاب، لا سيما وأن تحرّك أيار 1968 يظل مرجعاً إيجابياً لشرائح كبيرة من السكان - لا سيما الذين يتم حشدهم حالياً. ومع ذلك، كما ذكرنا سابقاً، ليس من المؤكد أن المقارنة مع أيّار 1968 مجدية هنا، بما يتجاوز التأثيرات التحريضية التي يمكن أن يحدثها الشعار. لكن فكرة «الإكمال حتى نهاية الطريق» بشكل خاص تبدو غير واضحة. إذا كان هذا يعني كل آمال التحرر والقطع مع الرأسمالية التي أثارتها حركة أيار 1968، فهذا أمر مرغوب فيه بشكل بديهي. لكن هذا لا يجيب على الأسئلة الإستراتيجية العاجلة التي تواجه الحراك واليسار.
مع تسييس النضال وانعدام الثقة الكبير في السلطات السياسية، يبدو أن الاقتراح الوحيد الذي يجمع بين الانسحاب الفوري لقانون إصلاح النظام التقاعدي وحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات جديدة هو المطروح حتى اللحظة الحالية، من دون السقوط في مجرد تعظيم لفظي أو صنم التحركات التاريخية. من الواضح أن الانقسام السياسي لا يعود إلى المشهد الانتخابي. ومع ذلك، كما ذكرنا بن سعيد: «من الواضح تماماً، بل وأكثر من ذلك في البلدان التي لديها تقليد برلماني يمتد لأكثر من قرن من الزمان، حيث تم ترسيخ مبدأ الاقتراع العام بقوة، أنه لا يمكن للمرء أن يتخيل عملية ثورية بخلاف نقل الشرعية الذي يعطي الغلبة "للاشتراكية من الأسفل"، ولكن مع ارتباط متبادل مع الأشكال التمثيلية».
لا شك أنه من الضروري أن نضيف إلى هذه الشعارات النضال من أجل حكومة يسارية تتجه نحو «التمزيق»، بمعنى التحوّل عن الأعراف والبناء السياسي الحالي. هذا يتطلب تحديد عناصر البرنامج، لا سيما حول القضايا المركزية والمباشرة للأجزاء المختلفة من الطبقات الشعبية وأصحاب الأجور: التقاعد عند سن الـ60 بأجر كامل للجميع (عند 55 للوظائف التي تتطلب جهداً بدنياً)، وزيادة فورية في الأجور ووضع آلية تُلحق الأجور بمؤشر التضخم (مقياس الأجور المنزلق)، وتجميد الأسعار والإيجارات، والتوظيف المناسب للعمّال غير المستقرين في القطاع العام، والانتقال إلى عقود دائمة في القطاع الخاص، واتخاذ تدابير استباقية ضد التمييز المنهجي بين الجنسين والتمييز العنصري في التوظيف والأجور ومعاشات التقاعد، والتوظيف الجماعي في الخدمة العامة، وإعادة التأميم الفوري للخدمات والسلع العامة الرئيسية (النقل، والطاقة، والصحة، والطرق السريعة، وما إلى ذلك)، فضلاً عن التخطيط البيئي.
قد ينشأ سؤال هنا عن العلاقة بين الحركات الاجتماعية وعلى وجه الخصوص النقابات العمالية - خاصة تلك التي لا تزال فيها النقابات النضالية الطبقية موجودة: الاتحاد العام للعمل، و نقابة التضامن العمالية والاتحاد النقابي الموحد - مع مثل هذه الحكومة الحالية، والتي تتقدم بشكل عام بمطالبهم. أي حكومة يسارية لديها برنامج «تمزيق» ستجد نفسها تحت ضغط هائل من الطبقة الحاكمة (ابتزاز على الاستثمار، ضغوط من المؤسسات الأوروبية، إلخ).
فقط التعبئة الشعبية الواسعة هي التي ستجعل موازنة وفرض المقترحات المذكورة أعلاه ممكنة، في إطار مواجهة اجتماعية ديناميكيتها معادية للرأسمالية بشكل أساسي، بقدر ما تؤدي حتماً إلى النقاش في مسألة سلطة رأس المال على كل المجتمع، على حياتنا وعلى البيئة، وبالتالي بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتبادل والاتصال.
في حالة إجراء انتخابات جديدة، ستبدأ معركة سياسية مختلفة. لكن انتصار الحراك ضد إصلاح النظام التقاعدي من شأنه أن يضع التحالف اليساري الإيكولوجي والاجتماعي الشعبي الجديد (NUPES) - ولا سيما القوة المهيمنة داخله، بلا شك الأكثر قتالية ضد ماكرون ومشروعه، أي مجموعة «فرنسا الأبية» - في موقع قوة. هذا لا يعني الطريق السهل إلى النجاح، فالحراكات الاجتماعية لا تمتلك أي تأثير تلقائي على ديناميكيات السلطة الانتخابية (فكر في حراك أيار 1968، والذي تبعه بعد أسابيع قليلة انتخاب أكثر برلمان يميني في تاريخ الجمهورية الخامسة).
بالإضافة إلى ذلك، لاحظنا أعلاه أن حزب لوبان يبدو حالياً أنه يستفيد أكثر من غيره من الرفض الشعبي الواسع للإصلاحات الماكرونية، لأسباب منها أن الممارسات البرلمانية الحقيقية لليمين المتطرف ليست كافية لإرساء التوازن. ومع ذلك، دعونا نلاحظ أن الاستطلاعات التي يتم إجراؤها حالياً تتم على أساس الافتراض الانهزامي (المقبول على نطاق واسع من قبل المستجيبين في هذه المرحلة) بأن ماكرون لن يتراجع. إذا كانت الحركة قد انتصرت بالفعل، فإن فرضية اندفاع اليسار السياسي الانتخابي لن تكون غير واقعية، حتى لو لم يكن هناك ما يشير إلى أنها ستلغي تماماً نظرية اليمين المتطرف، بالنظر إلى تفاهة هذا الأخير في المشهد الإعلامي والمجال السياسي.
لقد خلق الحراك، بلا شك، وضعاً جديداً وإمكانية لتغيير المسار، بمعنى ديناميكية القطيعة مع النظام القائم. لا يعني ذلك أن كل شيء في متناول اليد. ومع ذلك، فإن الثغرات التي بدت غير واردة قبل بضعة أشهر فقط باتت مطروحة اليوم. لن تكون هناك هدنة في الأيام وأسابيع المقبلة من المواجهة. من الواجب دفع السلطات السياسية إلى الخلف، ليس ذلك فقط، بل أيضاً دفع حدود الممكن إلى أقصى حد.