بعد أن أفرغ من أي مقال، وقبل النشر، أعرضه على بعض أصدقائي، ولكني أستمع إلى ملحوظاتهم من دون أن أغيّر حرفاً واحداً في المقال مكان النظر، ليس لأني لا أحترم وجهات نظرهم، إلا أن الأمر في غاية الوضوح -كما قدّمت له في مقالي السابق تحديات القارئ، عن التنقيح وقناعتي تجاهه، حيث إن أي تغيير في ما نكتب يذهب بنا إلى رؤية أخرى، تصرفني وتصرف القارئ عمّا أردت. وفي الحقيقة، أسعدُ، بل أكون أكثر حماسة، مع النقد الذي يتوقّف عند كل جزئية في المقال، ولا أقول إن صدري يتسع للنقد، بل إني سأكون شغوفاً بكل نقد يفتح أمامي آفاقاً من البحث والعلم، قد تكون، بل لا شك، أنها تغيب، فالعلم كله في العالم كله، ونصف العلم قول لا أعلم، وكم كنت سعيداً حين وجدت تعليقاً صوتياً على مقالي الذي نشرته في جريدة «الأخبار»، وتحديداً عن الجزئية التي تحدّثت فيها عن طه حسين، وربما فهم صديقي أني أتبنى رأي طه حسين، لكني أخبرته أن طه حسين كان قد قال كلاماً في كتاب الشعر الجاهلي نفسه ينقض بعض كلام له ضمنه كتاب «في الشعر الجاهلي»، وحين تحدّث عن التاريخ، عن إبراهيم وإسماعيل، فالذي يؤمن أن القرآن هو الذي يصف حياة الجاهليين بدقة، ينقض بكلامه هذا اتجاه النفي لديه في ما يخص إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وعلى نبينا وآله أفضلها وأتمها -وبطبيعة الحال لست أغلو غلو طه حسين بل إن كلام طه حسين في ما خص أخبار القرآن كان كلاماً يتجاوز عقيدتنا وإيماننا، وقد عاد الرجل وخفف من هذه الغلواء، وليس لنا بعد تجاوز الزمن ما كان أن نقارب الموضوع بشكل آخر.
إلا أن ما وددت قوله في سياق استعراض بعض أفكار زعيم من رواد من عرفوا آنذاك برواد التنوير استعراضاً يحاول البحث عن مكان النور والهدى في مكان آخر.
أي أنني أحاول البحث عن تنوير آخر، عن تنوير يقارب الحقيقة على نحو آخر من المعرفة ومن الاعتدال، وإذا كان التنوير قد فشا بهذا المفهوم، بعد نهضة أوروبية على المستوى المعرفي، والكولونيلي، فإنها لا شك جاءت وفق رد فعل عنيف، تجاه ما آل إليه العالم العربي والإسلامي من الهزيمة والتفكك، وسياق آخر ينحو منحى جديداً من الاصطباغ بفكر آخر، وربما التماهي معه، والضياع بين فوضاه.
لقد آن أن يُقرأ التنوير بشيء من التنوير وبشيء من النقد الموضوعي، لأن التنوير جاء إرهاصاً بأفول إمبراطورية ضخمة هي إمبراطورية عثمان، وخلف أصداء منذ مئات السنين خلّفتها الإخفاقات في الأندلس، فأصداء الوجود العربي والإسلامي في الأندلس كانت حتى القرن السابع العاشر هناك -كما يرى بعض الباحثين- والتي صار يعبر عنها في أدبياتنا بالفردوس المفقود، تراث ثمانية قرون من الوجود.
أقول بين أفول إمبراطورية مثل إمبراطورية عثمان، امتد سلطانها هذا الامتداد على رقعة كبيرة من العالم العربي والإسلامي، بحسنها وقبحها، وبين تراث أندلسي بما يشكّل حسناً وقبحاً، كان الإحباط يزخم نفوس المثقفين في المشرق والمغرب، وكان السعي حثيثاً، نحو الخروج من المأزق والبحث عن ملاذ يشكل ضمانة لتغيير واقع مؤلم.
ولذلك كانت بعض مقولة بعض الشخصيات الكبرى التي قيلت في شيء من المجاز، تفعل فعلها على نحو مغلوط، كما فعلت عبارة الشيخ محمد عبده الشهيرة حين زار الغرب وقال: «وجدت إسلاماً بلا مسلمين». إنها بلا شك مقولة مؤسسة، نحو فعل آخر تجاه هذا الغرب، فهناك من خلال هذه العبارة، تسويق غير مقصود من قبل الشيخ محمد عبده إلى الغرب، وجواز عبور ممهور من سلطة دينية لها وزنها في العالم الإسلامي. وصار التطبع بها لازمة كل مستنير إلا من شذ وندر، ومن جراء الولع بهذه المقولة صار التشبه بالعقل الغربي شيئاً من الرقي وملمحاً من البرجوازية الفكرية.
ولقد سبق محمد عبده انبهارات ومقولات، ومن أبرز تلك الانبهارات ما قدّمه إلى المكتبة العربية شيخ أزهري بعثه محمد علي باشا مع بعثة من الجيش، حتى يكون واعظاً لهم فعاد عليه رحمة الله يعظ بالانبهار والإعجاب بالحياة في فرنسا وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي من خلال كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريس». لكن هذا الانبهار في الواقع يحمل في عنوانه قيداً، حملته دلالة العنوان، فأراد أن يخلص ذلك المعدن النفيس (الإبريز) من التراب الذي علق به واختلط، ثم يلخص باريس.
وإذا كانت هذه المداليل تشكّل وعياً معيناً بعضها قبل سقوط دولة عثمان مثل رفاعة رافع الطهطاوي والآخر إبان التلاشي والانهيار والمتسارع، فإن كليهما كان يبحث عن النور من جديد، ولم يكتف طه حسين في ما بعد أن يسمّي باريس مدينة النور فمن فرط هيامه بها والولع الذي اجتاحه صار يسميها نور المدائن.
وهذا الانبهار وهذا الهيام وهذه الهبة نحو الغرب -آنذاك- رد فعل في سياقه الطبيعي، لكن الذي يحتاج إلى قراءة أخرى استمرار هذه المقولات حتى اللحظة من دون تأمّل أين يكون موقعنا معرفياً في هذه الفوضى والضوضاء الفكرية والثقافية.