متى تتوقّف الحرب؟ هذا سؤال ضاغط على سير العمليات العسكرية في أوكرانيا، التي تحوّلت إلى رهينة استراتيجية في صراع الإرادات الكبرى على مستقبل النظام الدولي.وما الحصاد المتوقّع للصدامات الجارية، التي اتسع مداها وتعدّدت جبهاتها، عندما يتوقّف دويّ المدافع؟ وهذا سؤال آخر ضاغط على أعصاب العالم، الذي يجد نفسه في قلب صراعات ضارية دون أن تستبين آثارها على مستقبله وحسابات القوة والمصالح فيه، ولا أين يقف وكيف يتصرّف؟! قد تمتد الحرب لأوقات إضافية يصعب التكهّن بها، أو قد يتسع مداها إلى أبعد ممّا هو متوقّع ومنتظر، لكنها كأية مواجهات عسكرية تتوقّف معاركها عندما تستنفد أسبابها ودواعيها.
طبيعة الحرب وأهدافها تحكم ما قد يحدث تالياً. في ما هو معلن ومباشر، فإن الأهداف الروسية تتلخّص في إنهاء أي احتمال لتمدّد حلف «الناتو» إلى حدودها المباشرة، أو أن تتحوّل أوكرانيا، التي ينظر إليها على أنها جزء من التاريخ الروسي، أنشئت وأخذت طبيعتها الجغرافية المعاصرة في العهد السوفياتي، إلى خنجر في الخاصرة. بصياغة أكثر جزماً، حيادية أوكرانيا مسألة نهائية وشبه جزيرة القرم خارج أي نقاش وتفاوض محتمل.
سيناريو تمدّد الحرب أقوى من وقفها في الوقت الحاضر رغم الجهود الديبلوماسية، التي تأخذ الآن صيغاً متعدّدة؛
أُولاها: المفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا على الحدود البيلاروسية، هذه مهامّها الفعلية محدودة في أمن النازحين من المدن المحاصرة.
وثانيتها: مقاربات على مستوى القمّة للتوصّل إلى بعض التفاهمات، وهذه بدورها لا ترقى إلى مستوى التفاوض بقدر الحرص على إبقاء نوافذ الحوار مفتوحة، كما تؤكد موسكو وواشنطن.
وثالثتها: دخول أطراف دوليّة عديدة على خط التوسّط، كتركيا عضو «الناتو» التي تربطها تفاهمات استراتيجية مع موسكو، والصين القوة الاقتصادية العالمية الثانية شبه الحليفة مع موسكو، وفرنسا القيادة السياسية المفترضة للاتحاد الأوروبي، لكنها تظل في نطاقها الحالي أقرب إلى اقترابات لا مبادرات.
عندما تتضح الحقائق على الأرض يصبح ممكناً الحوار المباشر بين واشنطن وموسكو، اللاعبين الرئيسيين في الأزمة. أن تنضم أو ألا تنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، هذه مسألة لا تدخل في المطالب الروسية، حلف «الناتو» قضية أخرى. الأمن القومي صلب ما يطلبه الكرملين.
وهذا مقياس النجاح والفشل في الحصاد الأخير بعد أن تتوقف المدافع. بالنظر إلى موازين القوى الحالية، يصعب بأي تصوّر أن تتراجع موسكو خطوة واحدة عما هدفت إليه، أياً كانت ضراوة العقوبات التي فُرضت، أو قد تُفرض عليها، إثر تدخلها العسكري. بقدر مماثل يصعب على الولايات المتحدة، والغرب معها، أن تتراجع عما تطلبه من أهداف، اختارت أوكرانيا ميداناً للمواجهة، استفزّت روسيا في أمنها القومي بعدما تنصّلت من كل التفاهمات والاتفاقيات الموقَّعة منذ انتهاء الحرب الباردة على ألا يكون لـ«الناتو» موضع قدم على حدودها المباشرة.
استنزاف الدور الروسي إلى أقصى درجة ممكنة في عالم يتغيّر هو صلب الطلب الأميركي


استنزاف الدور الروسي إلى أقصى درجة ممكنة في عالم يتغيّر هو صلب الطلب الأميركي حتى لا يكون ممكناً أن يكتسب وضع نقطة الارتكاز في أي احتمال لإعادة بناء النظام الدولي الجديد. هذا هو معيار النجاح والفشل في الحصاد الأميركي الأخير. في اللحظة الحالية لا يعتقد أيّ من الطرفين الدوليين المتنازعين أنه في موقف ضعف، أو أنه خسر رهاناته. بالنسبة إلى الروس، فإن موقفهم الميداني أفضل بما لا يقاس، يحاصرون المدن دون اقتحامها خشية التورط في حروب شوارع يصعب أن تكسبها الجيوش النظامية دون خسائر باهظة، ويفتحون في المدن المحاصرة ممرات إنسانية لخروج المدنيين من مواقع القتال تفتح كلها تقريباً على روسيا، أو على حليفتها بيلاروسيا، على النموذج ذاته الذي اتبعته في سوريا. وبالنسبة إلى الغرب، فإنه يدرك أن خسارته الميدانية شبه مؤكدة، لكنه يعمل على تمديد حرب استنزاف روسيا لأطول وقت ممكن، حتى يكون ممكناً إسقاطها من الداخل بالاستنزاف الاقتصادي المفرط على ما حدث سابقاً للاتحاد السوفياتي فوق جبال أفغانستان.
هكذا تتحدد المعادلة الرئيسية في الصراع: الأمن الروسي قضية وجود، إذا ما ضُرب في صميمه فإن روسيا نفسها تدخل في أفول دور ووزن بالمعادلات الدولية. لا هو دفاع غربي عن المبادئ الإنسانية رغم جدارتها ولا هو داخل في أية ادعاءات ديموقراطية رغم استحقاقتها.
إنه آخر ما يفكرون فيه والتجربة العربية ماثلة في الأذهان. الضحية الأولى في ذلك الصراع: أوكرانيا نفسها، التي صارح رئيسها مجلس العموم البريطاني بكلمة عبر الفيديو بأن الغرب لم يف بتعهداته في الدفاع عن بلاده. كان ذلك استنتاجاً خاطئاً، فقد جرى توريطه بالكامل في حرب ضحيتها بلاده، لم يكن ممكناً أن يفرض الغرب منطقة حظر جوي فوق كييف كما يطلب، وإلا فإنها الحرب العالمية الثالثة وتوريط لـ«الناتو» فيما لا يريده.
حسب الـ«CNN» تجري الآن في واشنطن مداولات ومناقشات أن يطلب من الرئيس الأوكراني مغادرة كييف لإعلان حكومة في المنفى مقرها المقترح بولندا. ذلك التفكير يعمل على خلق وضع شرعي مناوئ، إذا ما سقطت العاصمة الأوكرانية، يُحشد للاعتراف بها وتُعبأ الحملات حولها لاستنزاف اللاعب الروسي. الهدف نفسه بوسيلة أخرى.
الأرجح أن تكسب روسيا الصراع على أوكرانيا بالنقاط، والعالم كله قد تتشكل فيه ملامح مختلفة لنظام دولي جديد سوف يأخذ وقتاً حتى يعلن عن نفسه. احتواء روسيا... أم الصدام معها؟ كان ذلك هو السؤال الرئيسي في أعقاب الحرب الباردة. فشل الاحتواء وأطلّ الصدام على المشهد الأوروبي. هناك من يطرح الآن في الغرب السؤال نفسه مجدداً. في الوقت الراهن تعلو تدريجياً انتقادات حقيقية وحادة من داخل النخب الغربية على تفاقم الأزمة مع موسكو إلى هذا الحد.
كان لافتاً أن أعداداً كبيرة من المثقفين الإيطاليين طالبوا بمنع تدريس الأدب الروسي في بعض الجامعات، خشية أن تنجرف بلادهم إلى مكارثية جديدة تصادر الفكر والإبداع والحضارة الإنسانية نفسها. بضغط شعبي وثقافي ألغي القرار بأسرع من أي توقّع. كان عاراً حقيقياً لطّخ سمعة إيطاليا. شيء من ذلك سوف يحدث في المجالات الرياضية والفنية، التي تعرّضت لممارسات من هذا النوع.
الكلفة الاقتصادية للحصار المالي والاقتصادي على روسيا لا يخصّها وحدها، نحن أيضاً سوف ندفع الثمن، والغرب لن يفلت من استحقاقاته.
كان القرار الذي أعلنه الرئيس الأميركي جو بايدن بحظر الواردات النفطية الروسية تعبيراً عن أجواء التصعيد والتعبئة عند الحالة القصوى، لكنها عبّرت في الوقت نفسه عن تباينات عميقة وتشقّقات كامنة في الحلف الذي يقف على رأسه. لم تكن هناك مشكلة عند الولايات المتحدة في مثل هذا القرار، فوارداتها النفطية الروسية محدودة ولا تؤثر عليها عكس بلدان أوروبية عديدة تعتمد بشكل أساسي عليه. في ذلك التباين أتيح لكل طرف أوروبي أن يتصرف وفق مصالحه بدعوى أنه في المستقبل لا بد من العمل على بناء استراتيجية جديدة تتخفّف نهائياً من الاعتماد على النفط والغاز الروسيين. وإذا وضعنا في الاعتبار ما أشارت إليه الصين من استعداد لشراء النفط الروسي فإننا سوف نكون أمام مشروع انقسام سياسي عالمي وليس اقتصادياً فقط. قفزة أسعار النفط إلى مستويات قياسية سوف تهز الاقتصاد العالمي وحركة الأسواق في الغرب نفسه وتضرب بقسوة عندنا. في محاولة لتخفيف الوطأة المتوقّعة بدأت اتصالات أميركية شبه معلنة وشبه متعثرة مع فنزويلا وإيران، وهما عدوتان تقليديتان لسياساتها، بالإضافة إلى دول الخليج للبحث في مخارج الأزمة. إنها سيولة سياسية في النظام الدولي المتهالك تنبئ بأنه يكاد أن يستحيل منع تأسيس نظام جديد. إنها مسألة وقت.

* كاتب وصحافي مصري