كتاب سركيس نعّوم الجديد، «من مزيارة إلى واشنطن: حين تستفيق الذاكرة»، من أهم ما صدر عن الصحافة اللبنانية على مدى سنوات. أهمية الكتاب تتأتّى من صدق الكاتب في روايته عن مسيرته الصحافية (والسياسية، بعض الشيء، إذ كاد كمال شاتيلا ومن بعده عبد الحليم خدّام أن يُقحماه في عالم السياسة) حتى عندما يكون صدقه مُخلّاً بسمعته ومهنيّته. لكن، ليس واضحاً إن أدرك نعّوم أنّ هذه الصراحة في روايته أتت متناقضة بالكامل مع رؤيته وتقييمه لنفسه ولمهنته. هو صحافي يصرّ في هذا الكتاب على «استقلاليته»، لكن تلك الاستقلالية (يقول إنه أخذ الاستقلالية في الرأي عن والديه، ص. ٢٥) تكسّرت مبكّراً تحت وقع الإغراءات المادية التي حدّثنا عنها نعّوم بصراحة وتفصيل شديديْن. كُتب الكثير عن جريدة «النهار»، ومعظم ما كُتب عنها يدخل في باب الدعاية والترويج التجاري، مثل كتاب غسان تويني «سرّ المهنة وأسرار أخرى». كما أن صدور كتاب نعّوم تزامن مع صدور كتاب إدمون صعب «مسيرة عمر مع غسّان تويني»، الذي يختلف تماماً مع كتاب نعّوم، لأنّ صعب يرى نفسه انعكاساً أو ظلّاً لغسان تويني، ولا يمانع في ذلك بسبب إعجابه بتويني.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كتاب سركيس نعّوم مفيد وممتع، ومرويّ بأسلوب سلِس: هذه سيرة رجل من خلفية فقيرة من مزيارة، ثابَرَ وجهد كي يصل إلى كتابة تحليل سياسي في جريدة كانت لسنوات (قبل الحرب) الأولى في لبنان، وذات النفوذ الذي امتدّ إلى العالم العربي. لكنّ سيرة «النهار» عن نفسها (إن في سيرة تويني أو في سيرة صعب) هي غير ما يطالعنا بين دفتيْ كتاب نعّوم، الذي كشف عن وجه ليس مألوفاً إلا للّذين عرفوا غسان تويني، أو الذين عرفوا مَن عرف تويني مباشرةً. نعّوم عرّى طريقة عمل غسان تويني وشخصيّته، من دون أن يكون منبهراً أو متأثّراً بالهالة التي أراد تويني ترسيخها في داخل الجريدة وخارجها. سيرة نعوّم مؤلمة (له) لأنه راجع مسيرة عمره وطلع منها ــ كما يبدو من الكتاب ــ ناقماً ساخطاً وعاتباً على كثيرين.
في تصويره لمنطقة زغرتا حيث نشأ، هناك تصوير جريء من قبل نعّوم لوضع الجوْر الطبقي في المنطقة وتسلّط العائلات الإقطاعية. يقول في معرض حديثه: «نحن أهالي مزيارة زلم البكوات» (ص. ٢٩). وهذا الظلم الطبقي الذي عاشه ولامسه (والذي يغيب عن مقالاته وعن توجّهاته السياسية) طبع شخصيته، إذ أنه سرعان ما لاحظ الاستعلاء الطبقي في حياته وفي عمله الوظيفي، ولامسه مثلاً من غسان تويني (الذي يبدو، وهذا جزء غير معروف من شخصيته، أنه أخذ دائماً على سركيس انعدام تعليمه النخبوي الغربي، والناس عند تويني ليسوا كأسنان المشط) ومن سمير فرنجية، الذي كان عضواً في ثلاثي، كان يتلقّى الدفوعات المنتظمة من رفيق الحريري. بحسب رواية نعّوم، رأى فرنجية في نفسه بيكاً، ورأى في نعّوم زلمةً (من منظور الخلفية الطبقية). ولا يتورّع نعّوم عن سرد تفاصيل مجزرة مزيارة، التي لا يجوز الحديث عنها حتى الساعة (والمسؤول الأوّل عنها أصبح رئيساً لجمهورية لبنان). والذي يقرأ مقالات نعّوم في «النهار» سيكتشف أن أسلوبه الأدبي الروائي أجمل بكثير من أسلوبه كمحلّل سياسي، حيث تكثر الإشارات والاستشهادات بهذا «المصدر الجدّي» أو ذاك. تعيش مع طفولته ووعده لأبيه أنه سيحقّق شيئاً عندما يكبر. وخلافاً لتقليد السيرة اللبنانية، يغيب عن سيرة نعّوم التبجّح والمبالغة، باستثناء الإكثار من إعلام القارئ بإعجاب مسؤولين كبار (عرب وأميركيّين، مثل جفري فيلتمان، الذي بالكاد يستطيع أن يقرأ اسمه بالعربية) بكتاباته. لا يبالغ مثلاً في الحديث عن أدائه الأكاديمي، ويخبرنا عندما يسقط في هذا الامتحان الرسمي أو ذاك (يقول مثلاً بصراحة «لم أنجح في البكالوريا القسم الأول من الدورة الأولى»، ص. ٣٢، وهذا نادر الاعتراف في السير). ويقول في موضع آخر عن علاقته بابنه: «حتى إنني صفعته في بعض المرّات، وكنتُ أزعل من نفسي لقيامي بذلك» (ص. ٦١). لكن مصارحة النفس تقف عند حدود السياسة.
اختلط نعوم بأبناء طوائف أخرى بعد نزوله إلى بيروت، ويبدو أنّ ذلك أثّر فيه وأثّر على نظرته إلى الوضع اللبناني. لكن يشوب إعلان علمانيّته إلصاق صفات طائفية بأصدقائه: صديقه محمد عباس المسلم (ص. ٤٤) «عفيف أبو خير الدرزي، سعيد هزيمة السنّي، إضافة إلى مصطفى ملبس من فلسطين» (٤٨)، ثمّ زوجته السنيّة. ولو يا سركيس: نحن نتحدّث عن أصدقاء وعن زوجة هنا، وليس عن أعضاء لمجلس الشيوخ المقترح، والذي يتوزّع فيه الناس بحسب الطوائف. وسركيس رجلٌ جدّي ويحب الجدية في الحياة. هل هذا يعني أنه ليس مزوحاً؟ مثلاً، هو درس في الجامعة اللبنانية لكن «بقدر كبيرٍ من الجدية» (ص. ٤٦)، حتى عن العلاقة بفتاة في الجامعة يقول: «القصة جدية وغير جدية»، لكنّه يضيف في ما بعد «استأنفنا العلاقة في شكل جدّي» (ص. ٥٧). ومقالات نعّوم تزخر بوصف المصادر بالجدية. تخال أنه قرّر مبكراً في الحياة الانصراف عن الهزل والمرح نحو الجدية، وهو يبدو في إطلالته التلفزيونية بالغ الجدية. استبعد أن يكون نعّوم من المُعجَبين بالجاحظ الذي خلط الجد والهزل.
سيرة «النهار» في هذا الكتاب خلافاً لكتاب إدمون صعب هي السيرة غير الرسميّة المأذونة للجريدة ويظهر فيها فسادها وصلف غسان تويني


يكشف نعّوم ما لم نكن نعلمه عنه: مَن كان يعلم أنه مرّ في حزب «الكتائب» في صباه، قبل أن يصبح عروبيّاً في سنوات الجامعة، مؤيّداً لكمال شاتيلا في تنظيم «اتحاد قوى الشعب العامل». كان شاتيلا زعيماً طلّابياً نشطاً في الستينيّات، وكان له حضور قوي في بيروت، كما ساهمت شعبيّته وقدرته التنظيمية في إيصال نجاح واكيم في انتخابات عام ١٩٧٢. لكن نعّوم يبدو اعتذارياً في رواية نشاطه في تلك الحقبة، كأنه لا يريد أن تعكّر عليه وهم استقلاليّته، فيقول: «وجدتُ نفسي، لمرّة واحدة، أجمع تبرّعات لفلسطيني فدائي» (ص. ٥٣). كيف وجدتَ نفسك، يا سركيس؟ هكذا بالصدفة ومن دون وعيٍ منك؟ وشاتيلا أهدى نعّوم مسدّساً، وسأله ذات يوم: «يا سركيس، أنتَ شو؟» فيجيب سركيس: «أنا ماروني». ويجيبه شاتيلا: «إعمل أرثوذكس وبنزّلك على الانتخابات». (ص. ٥٤)
لكنّ الموضوع الأهم في رواية نعّوم، هو في الوضع المادّي. يقول إن مرتّبه في جريدة «النهار» لم يتعدّ ٨٦٠ دولاراً لسنوات، وهذا منطقي (مع أنّ البعض قد يشكّك في الرقم). لكنّ المخفيّ عن فساد جريدة «النهار» وأسلوب غسان تويني، أنه كان يقتّر في مرتّبات معظم العاملين فيها (باستثناء قلّة من المحظيّين) على أساس أن عليهم أن «يدبّروا حالهم» من خارج الجريدة، لأنّ اسم «النهار» يمكن له (في أيّام العزّ) أن يدرّ عليهم المزيد من المال السياسي. وكان المراسلون يتلقّون مرتّبات شهريّة «إكراميّة» من كل رئيس يُنتَبدون لتغطيته (شذَّ عن تلك القاعدة بعض مراسلي «النهار»). لكنّ سركيس تلافى المشكلة عبر القيام بـ«استشارات» (ص. ٦٢). إلا أن المشكلة أن سركيس، بحسب روايته، لا يجد غضاضة من تلقّي مرتّبات شهريّة منتظمة من سياسيّين يكتب عنهم (الذين عرفنا عنهم في هذه السيرة هما رفيق الحريري وفؤاد مخزومي). مع ذلك، يوفّق نعّوم في ذهنه بين ما يعتزّ بتسميته بـ«استقلاليّته» وتلقّيه مرتّبات من سياسيّين. لو أنكَ، يا سركيس، كتبتَ في نقد الحريري، هل أن المرتّب كان سيستمرّ؟ لكن قطيعة نشبت في علاقته مع الحريري، ثم مع مخزومي، ثم عادت الأمور فاصطلحت وانتظم الدعم المالي له. قد لا يكون اعتراف نعّوم مفاجئاً في الوسط الإعلامي اللبناني، لكنّه يفتح الباب أمام مراجعة ملف الفساد الإعلامي المستشري. كيف يمكن للإعلام أن يحاسب ويفضح الفساد السياسي فيما الفساد الإعلامي هو جزء لا يتجزّأ من الفساد السياسي؟ هل كان يمكن لرفيق الحريري أن يؤسّس لدولة الفساد والتسيّب المالي لو أنّ إعلاميّين، مثل نعوم وآخرين كثيرين، لم يروّجوا له ويغطّوا على فساده وسياساته الكارثية؟
طلب الوساطات لأولاده جزء من سيرة نعّوم، هناك من خدمه، وهناك من خدمه مرّة واحدة، كما أن هناك من لم يخدمه على الإطلاق، وهو يحمل مرارة في نفسه من الذين خذلوه. ويقول عن فؤاد مخزومي عندما أراد وظيفة لابنه: «اتصلتُ عندها برجل الأعمال والنائب فؤاد مخزومي، وكانت علاقتنا قد تجدّدت» (ص. ٦٤). أما رياض سلامه فقد خدمه مرّة واحدة، ويروي أنّ له سمعة أنه «يخدم مرّة واحدة، ولا يخدم مرّتيْن» (ص. ٦٦). فقد وظّف له سلامه ابنته، لكنّه لم يساعده «في وساطة لتعيين طارق (ابنه) في البنك الدولي» (ص. ٦٦). ويعزو سبب تمنّع سلامة عن تقديم الخدمة الثانية لأنه لم ينضم إلى «الفريق الواسع من الإعلاميين الذين أيّدوا وصوله إلى رئاسة الجمهورية، ولا يزالون». ويضيف مستدركاً: «علماً بأنني فعلتُ ذلك حفاظاً على استقلاليّتي وموضوعية «الموقف هذا النهار»». لكن يا سركيس: طلبُ الوساطتيْن، ثم تلقّي مُرتّبيْن من رفيق الحريري ومن فؤاد مخزومي، ألا يتعارض مع إعلانك لاستقلاليّتك وموضوعيّة «الموقف هذا النهار»؟ لا يبدو أنّ نعّوم يرى التناقض في ذلك، وهنا الطامة الكبرى. لا، لا يكتفي نعّوم بذلك، بل هو يعتب على السفراء الذين يعدونه بأعمال استشارية ولا يلبّون، ويعتب على الأثرياء من آل الشاغوري لأنهم «يتحاشونني كأنني غير موجود» (ص. ٩٥) لكن ماذا تريد منهم، يا سركيس، ولماذا لا يتحاشونك؟
يروي نعّوم حكايته مع غسان تويني وأنا أصدّقه فيها. ينسب سبب أخذ تويني لموقف مبكّر ضدّه، لأنه صارح غسان تويني برأيه أن ابنه جبران، خلافاً لتجربة غسان مع أبيه جبران، لم يبدأ من أوّل السلم ويتدرّج، كما أراد جبران تويني الجد لابنه (ص. ١١٠). كما أن تويني لم يُعجب بالخلفية الطبقية، أو التعليمية لنعّوم. مرّة قال له أمام الحريري: «هيدي الجريدة لبيّي ورّتني ياها، شو أنتَ جايي تقشّطني ياها؟» (ص. ١١٠). ويضيف نعّوم أنّ تويني كان يغار منه: «لم يكن يرتاح إلى تزايد عدد قرّائي، واستحسان الناس لمقالاتي. كانوا يقولون إنه باستثناء نهار الاثنيْن (عندما كان يكتب هو افتتاحيّته) يفتح الناس «النهار» على الصفحة الثانية مباشرة ليقرأوا «الموقف هذا النهار». لم تكن تعجبه شعبيّتي» (ص. ١١١). ويضيف أنّ تويني كان يوجّه إليه انتقادات قاسية في أحد اجتماعات التحرير من دون تسميته، منتقداً الذين يعتمدون على «مصدر مطّلع» و«مصدر مسؤول» في مقالاتهم (ص. ١١١). لكن هذه معه حق فيها غسان، يا سركيس. كم تكثرُ، لا بل تفرطُ، في نسب أخبار وآراء إلى مصادر متنوّعة بأوصاف مختلفة، مثل «مصدر شديد الجدية» أو «متابع أميركي مزمن لأميركا الشرق أوسطية» أو «أجواء حزب الله» أو «متابع جدّي للحياة السياسية في الولايات المتحدة» أو «قال المتابع الأميركي الجدّي» في رسائله الإلكترونية لسركيس. هذه عيّنة حرفيّة من مقالاته ومن إطلالالته التلفزيونية. ليست هذا صحافة موثوقة، يا سركيس. وكان تويني يصفه بـ«العميل السوري» (ص. ١١٥): ينسى الناس أن سركيس الذي هام بسيادة لبنان واستفظاع تدخّل النظام السوري في لبنان، بعد رحيل القوات السورية عن لبنان في عام ٢٠٠٥، كان مقرّباً جدّاً من عبد الحليم خدّام ومن قادة في النظام السوري، إلى درجة أنه يمكن اعتبار خدّام المُلهِم الأوّل لنعّوم في «الموقف هذا النهار».
تلاحقه النقمة الطبقية، لكنها لا تُترجَم بنقمة ضد الطبقة الحاكمة، بل ضد الأثرياء الذين تجاهلوه، فقط الذين تجاهلوه. يقول من ناحيةٍ إنه «ابن عائلة مؤسّسها معمرجي»، ويندم على إهماله «للفن والثقافة والفلسفة»، لكنه يستدرك بالقول: «كوّنتُ اسماً لي في لبنان والعالم العربي وبعض العالم... وأهميّة كتاباتي تظهر لدى الناس، والدول، والسفارات. وما الاتصالات التي تردني يوميّاً، والاستشارات التي تطلب منّي، إلا دليل على قيمة المقالات التي أكتبها» (ص. ١٢١). لكن، من هذه الدول، يا سركيس؟ وماذا لو أنها تتصل بك للتأثير عليك أو استخدام زاويتك بهدف ضخّ دعايتها السياسية؟ حتماً، إنّ عوني الكعكي يتلقّى اتصالات من سفارات ودول، لكنّ ذلك ليس بسبب قيمة مقالاته.
للمرّة الأولى أجد كاتباً في «النهار» يتكلّم عن طبيعة الإدارة فيها والتمويل من دون لفّ ودوران، وهو صريح حتى في وصفه لشخصية نائلة تويني، التي يبدو أنها لا تردّ على اتصالات هاتفيّة من سركيس أو من سفراء. ويقول إنه حاول تدبير تمويل قطري للجريدة لكنّ نائلة، بسبب شخصيّتها المُتحفِّظة والمنعزلة، لم تساعد. وانزعج جبران تويني، كما غسان من قبله، من علاقات سركيس الخليجية، حتى إنّ جبران منعه من تلبية زيارة للكويت لأنه هو الذي يقرّر من يرسل (ص. ١٢٧، والعلاقة مع الكويت كانت أساسية في تمويل «النهار»، كما روى لي كلوفيس مقصود، الذي سمع من غسان تويني رجاءً أثناء زيارة من جبران الكويت، كي لا يقتطع من المنحة الكويتية مبلغاً كبيراً هذه المرّة). وكيف لا تنزعج عائلة التويني من سركيس، عندما يزور السفير السعودي علي العسيري مكاتب «النهار»، ويقول أمام الحضور: «إنّ سفيرنا لديكم هو الأستاذ سركيس نعّوم» (ص. ١٢٨). هل يكون الصحافي الذي يعتبره السفير السعودي سفيراً للنظام في مقرّ عمله مُستقلّاً وموضوعياً؟ هل هذه هي الاستقلالية التي يحرص عليها نعّوم؟
لكن نائلة تويني زادت مرتّب سركيس إلى ٥ آلاف دولار (ص. ١٢٧)، بعدما كان جبران قد زاده إلى ٣ آلاف دولار. إلا أنّ المشكلة المالية المُزمنة عند سركيس تعود إلى زيارته السنوية إلى واشنطن. أصبح لسركيس تقليدٌ سنوي يحافظ عليه، إذ يزور واشنطن ويجري سلسلة طويلة جداً (جداً) من المقابلات مع مسؤولين حاليّين وسابقين وخبراء ومتطفّلين على الخبرة، ثم يستعين بها في سلسلة طويلة جداً (جداً) من المقابلات التي ترد فيها مصادر من نوع «مصدر شديد الجدية» أو «متابع جدّي» (ما في مزح، مع أخينا سركيس). والزيارة تلك تكلّف سركيس ٢٥ ألف دولار (لا أدري لماذا يصل المبلغ إلى ٢٥ ألف دولار، إذ أنني عشتُ في واشنطن لسنوات، وحسبتُ كلفة السفرة والإقامة في فندق فلم تصل معي إلى ٢٥ ألف دولار، إلا إذا كان سركيس يحبّذ السفر والإقامة الفخمة). ولا يختلف تجنيد رفيق الحريري لنعّوم عن طرق تجنيده لصحافيّين آخرين، إذ أنني سمعت عن محاولة الحريري تجنيد (أي تمويل) جوزيف سماحة ورفيق خوري (كلّ على حدة، ومن دون أن يوفق). طلب الحريري من سركيس وسمير فرنجية، والضابط عدنان شعبان، مساعدته في «عملٍ ما» مقابل ٢٠ ألف دولار في الشهر للثلاثة (لكنّ الحريري عاد واقتطع منها بعدما كان سركيس يحوّل نصفها إلى حساب سويسري). (ص. ١٦٧). مرّة، عندما علم الحريري أنّ لسركيس مبلغاً زهيداً في مصرف لبنان، أمر بصرف مبلغ ٣٠٠ ألف ليرة له (ص. ١٦٨) (كان ذلك قبل السقوط المدوّي لليرة). ومرّة أخرى، حوّل له الحريري مبلغ ٢٠٠ ألف ليرة، وحوّله سركيس إلى الدولار فاستفاد صاحبنا كثيراً. لكنّ سركيس لا يجد حرَجاً في تقبّل المال الحريري لأنه... مستقلّ، وهذه ليست رشوة: «لأنني كنتُ مقتنعاً بمشروعه» (ص. ١٦٨). نسأل سركيس: هل هذا يعني أنّ الرشوة للصحافي جائزة، فقط في الحالات التي يكون فيها الصحافي مقتنعاً بمشروع المرتشي؟ لكن القطيعة وقعت بين الحريري وسركيس (لم يفصح عن أسبابها)، ثم عادت العلاقة إلى مجاريها (ولم يكن وضعه المالي «على ما يرام» (ص. ١٧٣) فوافق سركيس أن يكون مستشاراً للحريري (مرّة أخرى) براتب ٥ آلاف دولار شهرياً (بدل عن «استشارات وتحليلات ودراسات»، ص. ١٧٣) بإلاضافة إلى تأمين نفقات رحلة أو رحلتين إلى الولايات المتحدة سنويّاً، أي ١٥ ألف دولار للرحلة. ومات الحريري بعدما اقترح على سركيس تأليف كتاب عنه. (ص. ١٧٤).
أما فؤاد مخزومي، فقد تعاقد مع سركيس على علاقة استشارية مقابل ٢٥٠٠ دولار شهريّاً، لكنّ العلاقة بينهما مرّت، أيضاً، بقطيعة طويلة، وعاد التواصل بعد أكثر من اثني عشر عاماً، ثمّ زاد المخزومي مرتّب نعّوم الشهري إلى ٥ آلاف دولار (ص. ٢٠٩) . هناك إعلانات ترويجية للمخزومي يظهر فيها نعّوم بثياب التزلّج، حيث يسأل المخزومي عن مشاريعه، وقد تكون هذه من ضمن التعاقد أم إكسترا. يا ترى؟ لكن من المستبعد أن يكون سركيس يجد في هذه العلاقة تناقضاً مع استقلاليّته. لماذا؟ لأنه، مثل حالة الحريري، مقتنعٌ بمشروعه. ويستشهد بقول المخزومي عنه: «هو الصحافي الوحيد الذي لم يعمل مصاري من مهنته» (ص. ٢١٠). لكنّ مجموع الأرقام التي وردت في هذه المراجعة تشير إلى كمٍّ محترم من المال المكنوز، يا سركيس. لكنّ الثري ميشال إده عرضَ على سركيس (الذي كان يزوره في «شكل منتظم») عقداً للعمل معه، إلا أنّ سركيس فاجأه بالقول: «كونترا يعني مبلغ مالي، وأنا ما يفوت بهيدي القصص» (ص. ٢٥٠). كيف ما بتفوت، يا سركيس؟ ألم تخبرنا عن الحريري والمخزومي؟ وكان هناك مشروع للعمل كمستشار للملك عبد الله بن عبد العزيز، لكنّ سركيس يروي بامتعاض عدم تحقيق المشروع (ص. ٢٩٢)، مع أنه زار الجنادريّة. وهناك قصص وتفاصيل غير واضحة في الكتاب عن محاولات الاستخبارات الأميركية تجنيد سركيس، لكنّ الأخير رفضها.
هذا كتاب يفيد في معرفة عمل جريدة «النهار» تحت إدارات متعاقبة. وسيرة «النهار» في هذا الكتاب، خلافاً لكتاب إدمون صعب، هي السيرة غير الرسميّة المأذونة للجريدة، ويظهر فيها فسادها وصلف غسان تويني: حتى إدمون صعب يعترف بأنّ غسان تويني كان يجد صعوبة في الإشادة بعمل صحافيّي «النهار» إلا إذا كان هو صاحب فكرة المقالة (ص. ٢١٧). لكنّ سيرة سركيس نعوم الشخصيّة تستحق القراءة، وإن شابتها مسحة من الكآبة رافقت الكاتب من طفولته إلى السنوات الحالية. وتراه عاجزاً عن شرح فهمه للمهنيّة في الصحافة، والعلاقة (المالية والشخصية) مع السياسيّين: كان الصحافي العريق في «واشنطن بوست»، ديفيد برودر، يرفض العلاقة الاجتماعية مع الساسة، مخافة أن يؤثّر ذلك على تغطيته. لكن صراحة رواية سركيس نعوم يمكن أن تشكّل مناسبة لمفاتحته، وكل من يعمل في الحقل الإعلامي في لبنان، بضرورة وضع ضوابط للمهنة التي يختصر أزمتها جلوس عوني الكعكي في منصب نقيبها.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)