«يقولون على الدوام إنّهم «النخبة»، وأنا لست من النخبة. حسنٌ، لدي تعليم أفضل منهم. أنا أكثر ذكاءً منهم … لدي منزل أجمل بكثير. لدي شقّة أجمل بكثير. لديّ «كل شيء» أجمل بكثير. وأنا في الرئاسة وهم ليسوا فيها. ثم يصرخون: النخبة! النخبة! … يقولون لك فلان هو من «النخبة»، ثم ترى أمامك هذا الصعلوك الصغير. هذا هو النخبة؟ أنا لست «نخبة» وهو من النخبة؟» «الحزب الديمقراطي… هو حزب الضرائب المرتفعة، والحدود المفتوحة، و(تشريع) الإجهاض في مراحل الحمل الأخيرة، وحزب الجريمة والفبركات والأوهام. الحزب الجمهوري هو حزب جميع الأميركيين… نحن حزب العامل الأميركي، والعائلة الأميركية، ونحن حزب الحلم الأميركي.»
من خطاب ترامب في غراند رابيدز، ميتشيغان


لم أكن أتخيّل أنّني سأقرأ يوماً مثل هذا الكلام، فضلاً عن أن أكتبه، ولكن دونالد ترامب هو رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة، وهو يبدو في طريقه إلى الفوز بولايةٍ ثانية، وقد يصبح رئيساً جمهورياً «تاريخياً»، نقرأ عن تأثيره بعد أربعين سنة، على طريقة رونالد ريغان. صدور نتائج التحقيق ـــ الذي دام سنتين ـــ حول علاقة مزعومة بين حملة ترامب الانتخابية والحكومة الروسيّة قد يكون هو ما حسم الأمر، و «تقرير مولر» يبرّئ ترامب بشكلٍ مزدوج، من تهمة التعامل مع الروس ومن تهمة إعاقة العدالة (وهي كانت «الطلقة الثانية» في جعبة الديمقراطيين، أي أن لا يجد التحقيق دلائل كافية على تورّط ترامب مع الرّوس، ولكن يقوم ترامب بالكذب على المحققين أو إخفاء معلومات، فيتمّ اتهامه بـ«إعاقة سير العدالة». لهذا السبب حرص محامو ترامب على أن لا يجلس شخصياً مع لجان التحقيق، خوفاً مما قد يتفوّه به وهو في جلسةٍ رسمية أو تحت القسم.
المشكلة هي أنّ الديمقراطيين، والإعلام المساند لهم، قد استثمروا في «نظرية المؤامرة» حول ترامب والروس، وراهنوا عليها، وجزموا بصحّتها، وقالوا أموراً غبية كثيرة من المستحيل التراجع عنها اليوم. على الرغم من عدم وجود أيّ دليلٍ ملموسٍ أو حقيقي حول هذه السرديّة، كان هناك ما يشبه الإجماع في الإعلام الأميركي على أنّ ترامب عميلٌ لبوتين، وقصص شبه ـــ يومية في الصفحات الأولى حول تراكم «الأدلّة» التي تثبت التواطؤ بين حملة ترامب والكرملين. حتّى إن هوس الديمقراطيين بالقضيّة قد سمح لترامب بالإفلات من فضائح أخرى كان من الممكن أن تهزّ صورته، كقضيّة «ستورمي د دانييلز» (المسألة ليست فقط أن ترامب قد أقام علاقة مع الممثلة الاباحية، ثم دفع لها حتى تصمت، ثم كذب في الموضوع، بل هو ـــ بحسب الوثائق ـــ أقام علاقته معها وزوجته قد أنجبت للتوّ طفلهما الصغير). ولكنّ القضية مرّت من غير تأثيرٍ تقريباً، لأن الديمقراطيين كانوا يركّزون حصراً على تلك «الطلقة الذهبية» التي ستنهي حكم ترامب وتخرجه من البيت الأبيض. بعد صدور نتائج تقرير مولر، نشر الكاتب الأميركي مات طيبي نصّاً عن الإعلام الأميركي وعن «فضيحته» في هذه القضية، مقارناً اياها بكذبة «أسلحة الدمار الشامل» قبيل غزو العراق ـــ مع فارق أنّ التواطؤ الإعلامي هنا كان أوسع وأسوأ في رأي طيبي، الذي عدّد التقارير والأخبار الكاذبة التي نشرتها وسائل «محترمة» على مدى شهور طويلة، ليحكم بأنّ «روسيا غايت» ستكون العلامة التي تؤرّخ لسقوط مصداقية الإعلام المؤسسي في أميركا بشكلٍ كامل، وتحوّله الى مسخرة.

«خطابٌ ناريّ»
على ذكر مات طيبي، فهو كان قد كتب في بداية صعود ترامب، خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، ما معناه أنّ الامتياز الحقيقي لترامب، وسرّ شعبيته، هو أنّه رجل تلفزيون في زمنٍ أصبحت السياسة الأميركية فيه، أساساً، لعبة تلفزيونية. هذا الامتياز كان ساطعاً ليلة الخميس الماضي حين ألقى ترامب خطابه «الاحتفالي» بعد صدور تقرير مولر، في مدينة غراند رابيدز في ميتشيغان، الولاية التي كانت أساسية في ضمان فوزه في الانتخابات الماضية. بغض النظر عن تقرير مولر، فإنّ ترامب كان سيدخل موسم الانتخابات الرئاسية وهو في موقفٍ مريح: أرقام النموّ مرتفعة والبطالة منخفضة، والشركات سعيدة بالخفض الضريبي الذي أقرّه ترامب. هذه ظروفٌ تكفل في العادة ولايةً ثانية في البيت الأبيض (الرئيس الجالس لديه، تقليدياً، امتيازٌ أمام منافسه، والنماذج الحسابية التي تتنبّأ بنتائج الانتخابات في أميركا بناءً على أرقام الاقتصاد تتوقع فوزاً مريحاً لترامب ـــ إذا لم يحصل انهيار اقتصادي مفاجئ). ولكن تبرئة ترامب من تهمة الخيانة جاءت بمثابة «ضربة قاضية» لأعداء ترامب مع انطلاق السباق الرئاسي.
مع تبرئة ترامب من وصمة الخيانة، أصبح الرئيس يمتلك «سرديّة مظلومية» يرفعها في وجه أعدائه: تمّ اتهامه ـــ لأكثر من سنتين ـــ بالخيانة وهو بريء، اختلق خصومه ملفّات و«إثباتات ضدّه»، وعاونهم في ذلك الإعلام «الليبرالي» (بالمفهوم الأميركي للكلمة، أي الأقرب للمؤسسة الديمقراطية)، بل إنّهم حاولوا تنفيذ «انقلابٍ» على الرئيس المنتخب عبر التحقيق والمحاكم (سوف نعود في الأسفل الى أهميّة أن تكون لك «سردية مظلومية» في المجتمع الأميركي).
أنا، كأكثر الناس، لم أتمكّن من الاستماع الى خطابٍ كامل لرئيس أميركي منذ عقود (وبخاصّة حين أصبح هناك «كاتبو خطابات» هم من يتكلّمون وليس الرئيس، وكلّ كلمةٍ في الخطاب مدروسة ولها هدف تكتيكي ومصمّمة لكي لا يساء فهمها أو تزعج أحداً)، ولكن كان من السّهل أن تتسمّر أمام دونالد ترامب لأكثر من ساعةٍ وعشرين دقيقة فيما هو يخطب في جمهوره الهائج ليلة الخميس، وهو يرتجل ويخرج عن النصّ في كلّ دقيقة (هناك فقرات في كلامه لا يمكن أن تكون الّا ارتجالاً، كأن يذهب في خاطرةٍ طويلة ـــ وهو يعدّد، من «منجزاته»، إلغاءه لضريبة الارث ـــ عدا عن أنّ العديد من الناس لا يحبّون أولادهم أصلاً ولا يريدون أن يورثوهم شيئاً، ثم يتساءل كم بين الجمهور الحاضر ينتمي الى هذا النوع).
حين تؤكّد موقعك كـ«مظلوم» في السياسة الأميركية، لا يعود عليك الاعتذار عن أيّ شيء، وهذا ما استغلّه ترامب الى أقصى الحدود في غراند رابيدز. لعن خصومه والإعلام المعادي، وجّه التحيّة الى الإعلاميين المناصرين له، وشكر مذيعي «فوكس نيوز» بأسمائهم الأولى («لدينا أصدقاء رائعين في الإعلام. انظروا الى رَش (ليمباو) وشون (هانيتي) ولورا (انغراهام) وستيف (هيلتون) وتكر (كارلسون)… حتّى غريغ (غتفلد) يحبّني الآن»). سخر من الديمقراطيين وهاجمهم بلا هوادة، وبلغةٍ لا يستخدمها الرؤساء: «ذاك الصغير صاحب العنق ــ القلم آدم شيف» ــ شيف، النائب عن كاليفورنيا، كان من قادة الحملة ضد ترامب في موضوع التآمر مع الرّوس ــ «لديه أصغر وأرفع عنقٍ رأيتها في حياتي». كلّ ذلك والجمهور يردّد بصخب هتافات «أربع سنوات جديدة»، «ضعهم في السجن» (حين يتكلّم ترامب عن خصومه)، و «أغلق الحدود».
ولكن «الخطير» كان في مضمون خطاب ترامب، وليس شكله، وهو يقدّم نفسه رئيساً لأميركا لدورةٍ ثانية. كلّ الكليشيهات «الشعبوية اليمينية» التي اشتهر بها ترامب مرشّحاً رئاسيّاً، والتي كانت تعتبر «متطرّفة» و «غير مقبولة» أصبحت في قلب الخطاب الرسمي للحزب الجمهوري. في كلامه عن المهاجرين استخدم ترامب مفردات كأنّها خارجة من بيان السفّاح الاسترالي برنتون تارَنت، ولم يجد غضاضة في استخدام تعابير مثل «الاجتياح» و«الغزو» و«الأجانب المجرمين» لتوصيف الهجرة الى أميركا، بعد أقلّ من أسبوعين على مجزرة كرايستشيرش. في الوقت ذاته، عدّد ترامب إنجازاته الداخلية والخارجية، وذكّر بأن معدل التوظيف للسود وذوي الأصل اللاتيني لم يكن يوماً كما هو عليه اليوم، مهوّناً من شأن أيّ تحدٍّ يمكن أن يطرحه عليه الديمقراطيون في الانتخابات المقبلة. سخر ترامب من الأجندة البيئية التي يروّج لها بعض المرشّحين الديمقراطيين، بعد أن أصبحت أميركا في عهده المنتج الأول للنفط والغاز في العالم، وبدأ بحشر الديمقراطيّين، الذين يحتمل أن يبرز من بينهم مرشّحٌ «يساري» (على طريقة بيرني ساندرز) لمقارعة ترامب، في خانة الحزب «اليساري المتطرّف» و «الاشتراكي»، مضيفاً أنّه يستمتع بملاقاة مرشّحٍ من هذا النوع (من شبه المستحيل، تقليدياً ولأسباب كثيرة، أن يفوز في انتخابات عامّة في أميركا).

أبعد من اللغة
الديمقراطيّون، في الحقيقة، هم ليسوا في أفضل أيّامهم، والاستطلاعات قبل أسابيع تفيد بأنّ أكثر المرشّحين شعبية في معسكرهم حتى اليوم هو جو بايدن (جو بايدن!). ولكن العديد من المعلّقين يرون في رئاسة ترامب ـــ التي قد تكون مديدة ـــ علامةً على تغيّرٍ بنيوي في قواعد السياسة الأميركيّة، و«ثورة» ضدّ الشكل القديم من المؤسسة، وكسراً لمحرّمات السياسة التقليدية. في تحليله لحقبة ترامب، يعتبر الكاتب آدم توز (في العدد الأخير من «لندن ريفيو اوف بوكس») أنّ ما يجري قد يفوق «انزلاقاً في اللغة» (بمعنى أن اليمينيين كانوا عنصريين ولكن لا يعبّرون عن ذلك صراحة، فيما ترامب لا يكترث) الى شيءٍ أخطر و«أكثر سواداً» بتعبيره. المقصد هنا هو أنّ زوال حاجب «اللغة المهذّبة» قد يشير الى نهاية عهدٍ شبه ـــ ليبرالي «من النفاق والتسويات» وأن يُطلق ترامب «سلسلة تفاعلات معادية لليبرالية، في أميركا وفي العالم». العديد من الناس (وبخاصّة الليبراليين «الأصوليين»، الذين يحملون صورةً مثالية عن الليبرالية) لا يقدّرون أهمية النّفاق في النظام الديمقراطي الليبرالي، وبخاصّةٍ إن كانت ليبرالية تغطّي على تناقضات عميقة في المجتمع. تنظيف اللغة من العنصريّة، ومراعاة الحساسيات والخصوصيات، ولغة «الصواب السياسي»، كانت ـــ على علّاتها ـــ من الأدوات الأساسية لإدارة المجتمع الليبرالي في اميركا. والهجوم على هذه الثقافة، ثقافة النخبة ولغة «اليسار الليبرالي» وعاداته ومُثُله، هو من أهمّ الأسلحة في ترسانة ترامب. العديد من النقّاد، من اليسار واليمين، هاجموا مراراً مجتمع «الصوابية السياسية» والهويات المتكاثرة والحساسيات اللامتناهية، ومن جوانب مختلفة، ولكن ترامب هو من قطف هذا الخطاب وحوّله الى رصيدٍ سياسيّ جماهيري. أنا أشهد بأنّ أميركا، في أوائل القرن الحادي والعشرين، هي من أكثر المجتمعات «الطائفية» في العالم (أنت تدخل السياسة عبر هويتك، الاثنية أو القومية أو الجنسية، وهذه تلازمك الى الأبد، حتى النوادي والتجمعات السياسية تقوم غالباً على فئات الهوية هذه، وليس الايديولوجيا). وهذا الجوّ يدفع، بالطّبع، الى التدافع على «المظلومية» الى مراحل كاريكاتورية. على سبيل المثال، حين تدرّب التلاميذ على كتابة طلبات للدخول الى برامج جامعية أو الحصول على منح، فإنّ «السرديّة العامّة» للرسالة التي يخطّها الطالب يجب أن تكون دائماً على الشكل التالي: 1- عليك أن تصف التحديّات الصعبة التي مرّت عليك في حياتك (مرض ألمّ بك، إعاقة، وفاة جدّتك، الخ)، 2- عليك أن تفصّل كيف عملت وناضلت لتخطّي هذه الصعوبات، 3- تشرح للجنة الفاحصة أن حصولك على القبول\المنحة هو العنصر الذي يلزمك لكي تكلّل مسيرتك الشاقّة بالنجاح. هذا النوع من الادعاء قد يكون شرعياً في حالة أبناء مهاجرين فقراء، ولكنّه يصبح كاريكاتورياً حين يتسلّح بالمظلومية أبناء أثرى الطبقات في أميركا وأكثرها تعليماً وامتيازات.
من السهل هنا أن يطالب البعض بالصيغة «الأصلية» من الليبرالية: ليبرالية من غير «هويات» وحساسيات ومظلوميات، يلتقي فيها الجميع كمواطنين متساوين ـــ لا كأبناء «طوائف» وأعراق وأجناس. هذا، تقريباً، هو الحلم الذي يصفه الكاتب اليميني فيكتور هانسون في أحد كتبه («مكسيفورنيا») حين يقارن صفوف المدارس «المتعددة الثقافات» اليوم بالصفّ «الليبرالي التقليدي» الذي عرفه في الخمسينيات: كان الاستاذ، بحسب هانسون، لا يعامل الطالب بشكلٍ مختلف لأنه مكسيكي أو مهاجر أو أسود، ولا «يعترف» له بمناسبات ثقافية وأعياد وطنية وحساسيات خاصة، ولكنّه ـــ ببساطة ـــ يعطيه فرصةً متساوية مع الباقين، والاحترام ذاته، والمعاملة نفسها، في إطارٍ من الوطنية الأميركية.
هناك مشكلتان في هذا الطرح؛ المشكلة الأولى هي أنّ لا أحد ـــ عاقلاً ـــ سيختلف مع المثال الجميل الذي يقدّمه هانسون، حيث الجميع متساوون والمواطنة تجمعنا والاختلاف بيننا لا معنى سياسياً له. هذا أفضل من أيّ مجتمعٍ سياسي يمكن أن أعد به. المشكلة الثانية هي أنّ هذا المجتمع، الذي يصفه هانسون، لم يكن موجوداً يوماً ما، وحصل نكوصٌ فيه الى مجتمع «النفاق» و«الهويات» الذي نعرفه اليوم. هذا «المثال» لم يوجد الّا في خيال هانسون، وهو أشبه بالكلام عن المثال الشيوعي «الذي لا يشبه أيّاً من التجارب الفعلية في التاريخ». الماضي في أميركا، قبل «الصواب السياسي»، كان ماضياً مليئاً بالإقصاء والعنصرية والتمييز (ضد النساء والأقليات والأجانب، والمختلفين والأغراب) والسياق الحالي هو التطوّر التاريخي لهذا المسار الطويل. وحين يتمّ الهجوم على «الصوابية السياسية» وهدمها، فهذا قد لا يكون تطوّراً «تقدّمياً» نحو نموذجٍ أكثر اكتمالاً من الليبراليّة، بل عبوراً الى إزالة للأدوات التي كانت «تدير التنوّع» في المجتمع الأميركي (وإن كانت هذه الأدوات «نفاقاً»، على حدّ قول آدم توز، فـ«الصوابية السياسية» ـــ مثلاً ـــ لم تغيّر شيئاً في حال الأفارقة الأميركيين ووضعهم الماديّ، ولا خففت من استغلال المهاجرين غير الشرعيين، ولا حمت النساء الفقيرات، الخ).
هذا الواقع يصبح صارخاً حين يكون دونالد ترامب ومؤيّدوه، اليوم، هم أبرز من ينادي بـ«الليبرالية العمياء»، إذ كرّر ترامب عدّة مرّات في غراند رابيدز أنّه لا يعترف بهويّات فرعيّة بل «كلّنا أميركيّون». لا أحد بعد يعرف التأثير الذي ستحدثه «الحركة الترامبية» على السياسة الأميركية في المدى البعيد. ولكن علينا توقّع سنوات جديدة من حكمٍ (قد يكون شبه مطلق ومن غير تحدٍّ) لهذا الرّجل، وأن نرى ما سيخرج بعد ذلك كلّه.