«من ليس معنا فهو ضدنا»، مقولة أطلقها زعيم الثورة البلشفية، فلاديمير لينين، ولاحقاً روج لها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بعد تفجيرات أيلول 2001. وعلى رغم الاختلاف الجذري بين اللحظتين، وبين أهداف كلا الزعيمين، فإن المقولة المذكورة تكثف رؤية أحادية وشمولية يُراد من خلالها استقطاب وتحشيد وتأطير وقيادة القوى السياسية وغير السياسية لإحداث تغير محدد، أو لقيادة تحولات دولية كما فعل بوش الابن. وما زالت تلك المقولة تفعل فعلها وفق تجليات تحددها طبيعة اللحظة السياسية والمكان. وذلك يدفعنا إلى مناقشة إشكالية مفهوم الهيمنة وتداخله مع مفهوم قيادة العالم، وطبيعة علاقتهما مع الصراعات الدولية والإقليمية.من البداهة أنه لن يكون بمقدور أي من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وأيضاً الاتحاد الأوروبي، فرض الهيمنة الأحادية على المستوى العالمي. وينطبق ذلك أيضاً على دول ناهضة تسعى لتمكين دورها الدولي وأيضاً الإقليمي مثل الصين والهند واليابان... ولذلك علاقة بالأوضاع العالمية، وما يحصل على مفهوم الهيمنة، السيطرة، التحكم، وأيضاً القيادة من تغيرات لم تكن معهودة حتى نهاية الحقبة السوفياتية. وذلك يدفع بدول تشتغل على فرض هيمنتها عالمياً وأيضاً إقليمياً إلى إيجاد آليات تناسب التحولات العالمية الراهنة.
من المعلوم أن التفوق العسكري للدول الكبرى له كبير الأثر في تحقيق الهيمنة العالمية، لكنه بات يرتبط بصورة كبيرة بالهيمنة على مداخل الثورة الرقمية ومخارجها، وأيضاً بالهيمنة الاقتصادية. فالاقتصاد بأشكاله المعولمة تُعبِّر عنه بوضوح الشركات العملاقة العابرة للحدود والجنسية. ويتقاطع ذلك مع تفاقم تمييل الرأسمالية، إذ أصبح القطاع المالي منذ أواخر القرن الماضي يشكل الميل الأساسي للرأسمالية النيو ليبرالية. وأيضاً مع محاولات السيطرة على مصادر الطاقة بأنواعها كافة، والمجالات الحيوية «البحرية والبرية والفضائية» واحتكار الصناعات فائقة الدقة والتطور، منها المتعلقة بصناعة الأسلحة. ويتصل ذلك مع ما تتمتع به الدول الساعية لبسط هيمنتها العالمية من قدرة على التحكم بالسياق العام للثورة الرقمية التقنية، التكنولوجية والمعلوماتية وأيضاً الاتصالات. وجميعها بات يترك آثاراً واضحة في طبيعة حياتنا اليومية وآليات تفكيرنا وأيضاً نمطية التفكير التي توضبها غالباً من منظور السوق. ولذلك علاقة بطبيعة الشركات الإعلامية العملاقة وعلاقتها بالدولة ورأس المال.
لقد شكل انهيار التجربة السوفياتية مدخلاً لتجاوز الثنائية القطبية، وارتبط بذلك نزع الغطاء الشيوعي أو مفهوم الاشتراكية المحققة عن أهم تجربتين في التاريخ الحديث، أي روسيا والصين ودول أخرى طرفية. وكان ذلك مناسباً لاشتغال واشنطن على اختبار قدرتها على قيادة العالم سياسياً واقتصادياً، وأيضاً بالقوة العسكرية في أكثر من محطة، منها غزو العراق. وكانت لذلك تداعيات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وأيديولوجية أسست لتعميق مظاهر الفوضى والتناقض على المستوى الدولي والإقليمي. وقد شكل تراجع تأثير النموذج الاشتراكي المحقق وأيضاً انحسار تأثير الأيديولوجيا الشيوعية مدخلاً لاشتغال رأس المال المعولم على فرض النموذج الرأسمالي النيو ليبرالي، ما أسس لتفاقم تناقض ميول رأس المال المالي والاحتكاري مع معايير العدالة الاجتماعية والديموقراطية، وأيضاً فاقم مظاهر الاستقطاب الاجتماعي.
التنافس بين الدول الكبرى يعني أننا كعرب أمام مستقبل ينذر بمزيد من الفوضى


وكما بات معلوماً فإن محاولات واشنطن لقيادة العالم أو لفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية تتوزع في ما يعرف بأوراسيا. فهي على سبيل المثال تشتغل على التحكم بغير دولة في آسيا الوسطى انفصلت عن الاتحاد السوفياتي. ولذلك علاقة بالأهمية الجيو سياسية لتلك الدول. فهي من وجهة نظر واشنطن تمكنها من تطويق روسيا، ومن ضبط وتحجيم التمدد الروسي. ويتعزز ذلك في حال نجحت بالسيطرة على مصادر الطاقة. ويتقاطع أيضاً مع اشتغال واشنطن على التمدد جنوب وشرق آسيا. وهي تعمل من أجل تمكين وجودها هناك على إقامة تحالفات مع اليابان والفيلبين وسنغافورة وتايلاند وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية، ومع كوريا الشمالية وإن بشكل مختلف، ولا يستثنى من ذلك باكستان والهند، وذلك في إطار اشتغالها على ضبط ميول الاقتصاد في جنوب شرقي آسيا، ودمجه في السياق الأميركي، وفي شكل خاص الصين. فنهوض الصين كقوة اقتصادية قادرة على الهيمنة الإقليمية والدولية، يشكل تهديداً مباشراً لحلم واشنطن في الهيمنة. ويتصل بما سبق عرضه اشتغال واشنطن وإن بأشكال مختلفة على التحكم بأوضاع إيران ودول أخرى كانت تحت المظلة السوفياتية، والمحافظة أيضاً على استمرار هيمنتها على دول الخليج العربي.
من جانب آخر، يمكن الاتحاد الأوروبي أن يكرس نموذجاً سياسياً مختلفاً عن النموذج الأميركي الشمالي. لكن التعدد القومي، والتباين الألماني- الفرنسي على كيفية قيادة الاتحاد، إضافة إلى تبعية بريطانيا لواشنطن، ومعاناة غير دولة أوروبية من تفاقم أزماتها الاقتصادية، واستمرار الحماية الأميركية عسكرياً لأوروبا، تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك مقومات الهيمنة العالمية. لكن ذلك لا يقلل محورية دوره الدولي، ومن أهمية التكامل الأوروبي بالمستوى الإقليمي.
إن مخاوف بعض الدول الكبرى من اشتغال واشنطن على فرض هيمنتها العالمية انطلاقاً من شرق آسيا مروراً بآسيا الوسطى ودول أوروبا الشرقية وانتهاءً بدول من أوروبا الغربية، وأميركا اللاتينية ودول أخرى متعددة، منها أفريقية، يساهم باتساع نطاق التنافس العالمي وارتفاع حدته، ما يدفع بروسيا الاتحادية ودول أخرى كبرى لإعادة توضيب تحالفات دولية سياسية واقتصادية وعسكرية تتناسب مع الأوضاع والتحولات الدولية الراهنة، وذلك للحد من تحكّم الولايات المتحدة المنفرد بسياق التحولات الدولية، أو فرضها أياً من أشكال الهيمنة اقتصادية كانت أو عسكرية، وأيضاً لمواجهة التغوّل الأميركي وللحد من تداعيات تمددها العالمي، وما تقوم به من تكتلات تساهم في ارتفاع حدة التوتر والاضطراب والفوضى على المستوى العالمي.
يتقاطع ذلك مع بروز مشاريع هيمنة إقليمية تقودها كل من إيران وتركيا. وكلتا الدولتين تمتلك إرثاً إمبراطورياً، في وقت تندرج في كثير من اللحظات مشاريع الهيمنة الإقليمية في إطار الصراع من أجل الهيمنة العالمية أو ضمن ميولها العامة. لكن ذلك لا يعني عدم وجود اختلاف أو تباين أو حتى تناقض بين مشاريع الدول المشاركة في تلك الصراعات. وحدهم الحكام العرب على رغم امتلاك الوطن العربي مقومات الفاعلية الإقليمية والدولية يستمرون في سياق علاقاتهم الدولية والإقليمية بتكريس علاقات التبعية والارتهان.
في سياق متصل، ما يجري في منطقة الشرق الأوسط وغير دولة عربية من صراعات يكثف المشهد العالمي الذي تعمل في إطاره دول كبرى وأخرى إقليمية لفرض هيمنتها بأشكال مختلفة عسكرية سياسية واقتصادية وعقائدية، ما يعني أن إقليمنا العربي تحوّل إلى ميادين صراع تتقدمه وتتحكم به وتقوده قوى دولية وإقليمية، طبعاً مع استمرار تحميل كافة أسباب الصراع على حوامل «عقائدية ــ أيديولوجية»، جميعها يؤسس لفوضى يتم في إطارها إعادة تقسيم النفوذ الإقليمي والدولي، وإعادة بناء نظم سياسية ودول كانتونية مأزومة تناسب الميل العالمي الجديد، خصوصاً في شرقنا الذي تتم إعادة توضيبه بالقوة في سياق صراع أميركي ــ روسي يستغرق صراعات أخرى إقليمية: خليجية، إيرانية، تركية. ويندرج في السياق جيوش محلية وفصائل ومجموعات وظيفية. وحتى اللحظة يبدو أن أكثر المستفيدين من الصراعات المذكورة ومن نتائجها المباشرة وغير المباشرة هي إسرائيل.
لقد بات واضحاً أن ملامح التحولات الدولية الراهنة، وأيضاً التحالفات الكبرى التي يتم تأسيسها من منظور تمكين مشاريع هيمنة دولية وأخرى إقليمية، تهدف إلى إعادة إنتاج وتوضيب الأوضاع الدولية. ونظراً إلى صعوبة المواجهة العسكرية المباشرة بين الدول الكبرى وتحديداً داخل أراضيها. فمن البداهة بمكان أن تكون دولنا ودول أخرى مجالاً للصراع من أجل الهيمنة، ما يشكّل مدخلاً لتفاقم الفوضى والتناقض والاستقطاب.
إن التنافس بين الدول الكبرى للسيطرة على الموارد والثروات وتحديداً حوامل الطاقة، والمناطق الجيو سياسية المهمة لجهة فرض مشاريع الهيمنة، ينذر باتساع المواجهات العسكرية. وما نشهده من صراعات في غير دولة عربية، وفي شكل خاص في سوريا، يدلل على أننا نقف على عتبة صراعات إقليمية ودولية سيكون لها دور بارز بتحديد طبيعة التحولات الإقليمية والدولية وأشكال تجلياتها، ما يعني أننا كعرب أمام مستقبل ينذر بمزيد من الفوضى والتحلل والتخلف والتبعية والارتهان، وأيضاً يحمل إمكانية تحلل الدولة المركزية، وتفكك مكوناتها المجتمعية. ولن يكون المخرج من ذلك إلا باشتغال شعوبنا على استنهاض طاقاتها الكامنة ووضعها في إطار مشروع وطني ديموقراطي يعبّر عن مصالحها الحقيقية.

* كاتب وباحث سوري