تُجمع جميع الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والأنتروبولوجيا الاقتصادية في سوسيولوجيا الثراء، على حقيقة واحدة، أنّ الاقتصاد اللبناني لم يتمكّن من التحوّل إلى اقتصاد منتج في الزراعة والصناعة، بل ارتفعت حصة الخدمات على مدى السنين حتى أصبحت تشكّل نحو 80% من مجمله، وذلك منذ إعلان استقلاله وتأسيس الدولة اللبنانية سنة 1943.
كذلك لم يتمكّن المجتمع اللبناني من تحقيق انبعاث اقتصادي جدي ومتين بفعل طبقة أو فئة اجتماعية أو كتلة اقتصادية تحضن الحدود وتبني الدولة وتسيّر الاقتصاد وتوزع الثروة على مساحة الوطن، وذلك منذ الاستقلال.
أطوف شوارع بيروت العتيقة أو ما بقي منها، وأتذكر كتابات المؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسيين عن تركيبة لبنان الطبقية، وأرى فيها أغلاطاً وتشويهات جسيمة.
أنظر وأتمتع بهذه القصور والجامعات والكنائس والمساجد والشوارع، وأقول لنفسي: من أين جاءت كل هذه القدرة على التشييد والبناء المكلف والمرهف، وما كانت كلفة هذا البناء والبنية التحتية العظيمة من مياه، جسور، طرقات، مجارير وكهرباء في حينه؟
تقول الدراسات المذكورة أعلاه إن أصل وجذور التراكم الرأسمالي والثراء هو التجارة لعائلات بيروت من الأرثوذكس والسنّة، وأقول إنّ هذا غلط تاريخي وخطأ كبير في التحليل، حيث كانت مدينة بيروت لا يتعدى عدد أبنائها بخلاف القاطنين عشرين ألف نسمة سنة 1890 حسب السجلات، فكيف بإمكان إنتاج أرباح وتراكم رأسمالي بالتجارة بهذا الحجم في مدينة تعدادها 20000 نسمة؟
تشكّل المجلس البلدي الأول في بيروت سنة 1899 من أربعة أعضاء سنّة وثمانية أعضاء أرثوذكس، هم: خليل سرسق، ميشال تويني، موسى فريج، بشارة قرقش، جبور الطيب، يوسف جداي، حبيب طراد وبشارة الهاني (أرثوذكس)، والرئيس محيي الدين حمادة، محمد أياس، مسلم فياض وابراهيم طبارة (سنّة).
الحقيقة أن التراكم الرأسمالي حصل في هذه الأيام وتألقت عائلات بيروت إلى الواجهة الاقتصادية والعائلية والاجتماعية، وتصدرت الحركة الاقتصادية في لبنان والشرق من القيمة المضافة الزراعية وليست التجارية تماماً كما حصل في أوروبا في القرن التاسع عشر. نشطت هذه العائلات في سهل البقاع وسهل حوران وسهل الحولة وسفوح الجبال والسهول السورية وربوع مصر جميعها من زراعة وصناعة زراعية تحويلية، ما مكن هذه الطبقة المنتجة من بناء مدينتهم بيروت وبأغلى الأثمان وأجمل ذوق معماري يدلّ على ثقافة وذوق مرهف وقدرة مالية عالية وتراكم رأسمالي مكّنها من كل ذلك. وكانت بلاد الشام مفتوحة على مصراعيها لهم من تخوم البحر المتوسط حتى الصحراء المصرية والسورية وخليج العرب وفي العراق بلاد ما بين النهرين.
تراجعت هذه العائلات مع بلوغ لبنان استقلاله، وضاقت رقعة عملها الاقتصادي سنة 1943 في حدود الدولة العتيدة، وفقدت سلطتها السياسية، وحلّت مكانها كتلة صاعدة سلطتها الدولة واقتصادها خدماتي نفعي ريعي، شرعت في المضاربات العقارية والتجارة الثلاثية والبنوك.
استفادت هذه الكتلة الحديثة من وصول أموال نازحين فلسطينيين ونازحين من البلاد العربية المجاورة إثر تغيّر الأنظمة في سوريا والعراق ومصر، واستثمرت هذه الأموال في الخدمات والتجارة والبنوك والعقارات.
ارتفع منسوب التراكم التجاري باتجاه أفريقيا والبلاد العربية والسياحة الداخلية، وذلك حتى الحرب العربية ــ الإسرائيلية سنة 1967، عندها بدأت تتلاشى التركة الاقتصادية وحلت مصيبة إفلاس بنك «إنترا» (أو إفلاسه القسري السياسي). وبدأت بعدها الحروب اللبنانية الفلسطينية، ثم الحرب العربية ــ الإسرائيلية سنة 1973 ثم الحرب الأهلية اللبنانية من سنة 1975 إلى 1991.
قضت الحرب الأهلية على قدرات العائلات العريقة، وجاءت سلطة سياسية من انبعاث مؤتمر الطائف ذات قدرة إقليمية سياسية عالية وجهت الاقتصاد إلى الريع والبناء، وصعدت عائلات جديدة تحكمت بالاتصالات والبترول والدواء والاحتكارات التجارية والمقاولات تميزت بالربح السريع وبنمو أثرياء الحرب وعقلية نفعية قصيرة النفس وسريعة البديهة في أكل الأكتاف من الدولة والبشر.
تحوّل الاقتصاد بشكل نهائي عن وجهته الإنتاجية إلى اقتصاد ريعي صرف، واحتُلّت مدينة بيروت ونزح أهلها الأصليون، في معظمهم، إلى الجبال المحيطة، وفقدت بيروت محركها الاجتماعي الأصيل، وخاصة عقلية البناء الرأسمالي الإنتاجي المسؤول على نمط الرأسمالية الأوروبية... وهذا يتطلب بالطبع رؤية ومبادرة افتقدتها المجموعة الحاكمة الريعية الجديدة.
إن التراكمات الرأسمالية الآنفة لسنة 1991 في جميعها ريعية أو نفعية سلطوية، ولم تتمكن هذه التراكمات في حجمها من أن تتطور أو تتجه إلى مشاريع إنتاجية زراعية وصناعية أو بنيوية بفعل منشئها الرأسمالي والاجتماعي. فالاقتصاد الريعي الجديد الذي أساسه النفعية والتحويل من الخارج (الترانسفير)، يعيش على تآكل الاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي. فحساب الترانسفير، مثلاً، يحوّل معادلة الأسعار والإنتاج بشكل غير متناسب، وترتفع حينها أسعار السلع والعقارات والخدمات من دون ارتفاع متوازٍ في الإنتاج، وتعمّ السوق التبادلية خدمات وأسعار فاحشة لا تفسير لها من الناحية الإنتاجية الصرفة وتعمّ العطالة.
فقد لبنان دور بيروت العاصمة الاقتصادي وعائلاتها العريقة وخاصة الأيديولوجية الرأسمالية، وتحول الرأسمال إلى ثراء وموجودات جامدة وباردة في البنوك ينتظر أصحابها الفائدة الشهرية تصرفها على حياتهم اليومية محجمين عن الدخول في عراك الاقتصاد والاستثمار والتنظيم الرأسمالي الصناعي والزراعي المنتج، وحوّلت البلاد إلى دائرة فارغة أساسها استهلاك مستورد يبحث عن ريعي يشتريه، وسافر أولادنا إلى الخارج باحثين عن لقمة عيشهم.

* رئيس تجمع عائلات بيروت