أسعد أبو خليل*
قرر النظام الرسمي العربي أن يرفع لواء العلمانية. هكذا فجأة: يبدي التحالف العربي الخاضع لقيادة آل سعود (والذي يضمّ أنظمة لا تزال تحاول أن تستمد شرعية ما من أنساب ذات صفة دينية، حقيقية كانت أم مزعومة) قلقاً من إمكان قيام إمارة إسلامية في غزة.
الصحافي جورج ناصيف (العلماني ـــــ أيضاً فجأة ـــــ ورغم كتاباته الملأى بالابتهالات الدينية الحارة) أعلن أنه، باستثناء تجربة جعفر النميري (المدعومة من الولايات المتحدة حتى لا ننسى)، لم يسبق أن نشأ نظام إسلامي في العالم العربي. بدا الصحافي ناصيف مذعوراً في حديثه على شاشة عتاة العلمانية، أي شبكة إرسال القوات اللبنانية (العلمانية أيضاً لو تجاهلت الصليب الذي يبدو لي معكوفاً). يبدو أن الصحافي المرموق، ربما لانهماكه بتغطية «ثورة الأرز»، لم يسمع بأنباء رجم العشّاق وقطع الرؤوس ـــــ فقط حين يحين قطافها الشرعي ـــــ في مملكة الحب والوئام منذ العشرينيات. هل يحتاج أهل اللبرالية في الإعلام العربي الى دروس في تاريخ الدول الدينية في الشرق الأوسط وفي خارجها؟ هل هم جاهلون لتاريخ تمويل الحركات المتعصبة في منطقتنا في مواجهة فكر التنوير على امتداد ما يزيد على نصف قرن؟ هل يجهل هؤلاء أن نظام الطالبان (الذي حظي باعتراف ثلاث دول لا غير: السعودية ودولة الامارات وباكستان) بُني على تقليد النموذج الوهابي؟
أمّا النظام المصري، فأعلن رسمياً انزعاجه الشديد ممّا حدث في غزة، وأضاف أنه لن يسمح بإقامة دولة دينية على حدوده. لكنّه لم يُبد قلقاً (ليس بعد على الأقل) من وجود دولة على حدوده، وفوق أرضه لعقود، ذات وقاحة فجة في اعلان هويتها الدينية وتمييزها المبني على العنصر الديني.
أما أبو مازن، فقد وجد هكذا فجأة شجاعة خانته على مر السنين. هو ذا الملحق التنظيمي في تاريخ حركة فتح، والذي لم يكن ليحلم بتولّي منصب قيادي في حركة فتح، لو لم تمهّد إسرائيل الطريق له (بالصدفة طبعاً، وهي خير من ألف انقلاب) عبر قتل العشرات من قياديي حركة فتح عبر العقود، وعبر تزكية شخصية من ادارة بوش. وإدارة بوش، والوزيرة رايس شخصياً، أصبحت المرجع الدستوري الفلسطيني الرسمي والأعلى: فهي تقرر إذا ما كانت إجراءات ما دستورية أو غير دستورية في السلطة الفلسطينية. لكن المعايير الدستورية الأميركية تخضع للتغيير الملائِم: فعندما شغل ياسر عرفات منصب رئيس السلطة، أفتت الإدارة الأميركية بسلطات هائلة لرئيس الوزراء (وهو منصب اخترعه للإدارة الاميركية الرئيس السابق للموساد، افرايم هلافي، مثلما أفاد هو في مذكراته). أما اليوم، فهي تفتي بعدم وجود أية صلاحية تذكر لرئيس الوزراء. وقد تدور الدوائر من جديد إذا ما تم انتخاب رئيس للسلطة (وأية سلطة) معاد للمصالح الأميركية والإسرائيلية. وعندها، يقتضي الأمر إصدار فتوى أميركية جديدة لتقرير أمر شرعية القرارات الفلسطينية، إذ إن الإدارة الأميركية هي الأصلح لتقرير المصلحة الفلسطينية العليا (مثلما أعلن اولمرت وبوش بعد اجتماعهما قبل ايام أن أبو مازن هو «الزعيم الفلسطيني الأوحد» (نشكّ أن يكون الرجلان قد لاحظا المفارقة في التعبير من زاوية التاريخ العربي المعاصر).
لكن الهلع الذي أصاب الإعلام السعودي واللبرالية العربية لم يكن له مثيل. يا للهول. احتمال إقامة حكومة إسلامية في المنطقة العربية الغارقة في العلمانية (الوهابية)؟ فتناطح لبراليو الإعلام العربي لإدانة أعمال شنيعة من جانب حركة حماس، إذ إن الحكم الفتحاوي (المدعوم من الأصوات نفسها) كان قائماً على العلمانية المطلقة وعلى حكم القانون والشفافية والسيادة المطلقة والولاء للمصلحة الفلسطينية فقط وعدم السماح، خلافاً لحماس، لسلطات خارجية إقليمية بالتدخل في الشأن الفلسطيني. وحكم السلطة الفلسطينية كان منافياً للتعذيب والتنكيل (إلا بهؤلاء الإرهابيين الذين حاولوا إقلاق راحة إسرائيل). وخطاب أبو مازن أمام المجلس المركزي الفلسطيني (ومن المضحك كيف تذكر أبو مازن وجود منظمة التحرير فجأة بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بعدما رُميت المنظمة في سلة المهملات إذ ارتأت اسرائيل وأميركا أن التعامل مع السلطة في عصر أوسلو هو اسهل) كان غريباً في مفرداته. وكان الحضور في المجلس يصفقون لعباس على طريقة تصفيق مجلس الشعب السوري أو المصري إلخ. فأبو مازن، الذي اعتذر رسمياً مرة لوصفه اسرائيل بـ«العدو»، لم يتورّع عن وصف أعدائه الفلسطينيين بـ«المجرمين والقتلة والإرهابيين». وأبدى أبو مازن استعداده للقاء أولمرت من دون شروط، لكنه (وبإباء) رفض أي لقاء مع حماس. وأورد أبو مازن أخباراً و«معلومات ووثائق»، على طريقة حكومة السنيورة في إشارتها إلى تورّط سوريا في نهر البارد وعلى طريقة الولايات المتحدة في إشارتها إلى تورّط إيران في الشؤون العراقية ـــــ إذ إن الولايات المتحدة ترفض بتاتاً أي خرق للسيادة العراقية (إلّا إذا حدث باسم «التحرير» طبعاً)، عن تورّط «جهات إقليمية» في أحداث غزة. ظهر أبو مازن كأنه قد تناول لتوّه منشّطاً أميركياً، وبجرعات إضافية، حتى كنا نخاله سيطلع علينا بـ«نقاط سبع».
والحديث عن طغيان حماس في غزة يحتاج إلى الكثير من الشرح ورسم السياق. صحيح أن حماس انقلبت، لكنها انقلبت على قوات خارجة على الشرعية الوطنية الفلسطينية المنبثقة عن المجلس التشريعي. فعصابات الدحلان استمدّت شرعيتها ـــــ اذا كانت هي شرعية ـــــ من دعم مباشر من استخبارات دول عربية وإسرائيل والولايات المتحدة. كذلك حدث الانقلاب (وهو هال حساسيات اللبرالية العربية المتمسكة بالانتخابات على الطريقة المصرية أو على طريقة التعيين الوهابية) سُجّل بمجرد فوز حماس، حيث بدأ مشروع تقويض السلطة المنتخبة عبر استعمال أبو مازن (وهو جاء الى منصبه ـــــ بعد أن كان مجهولاً من الشعب الفلسطيني طيلة عقود النضال ـــــ بإرادة أميركية ـــــ إسرائيلية مشتركة). ويمكن القول إن حماس تعاملت مع أبو مازن («الأخ الرئيس» كما كان إسماعيل هنية يصرّ على تسميته) بكثير من السذاجة السياسية المفرطة، مثلما تعاملت مع الوساطة السعودية بكثير من الغباء (وهذا يشبه موقف حزب الله من «الوساطة السعودية في لبنان بالرغم من أن أي قارئ (أو قارئة) يستطيع أن يتبين الموقف السعودي الرسمي بوضوح في الإعلام السعودي الرسمي (وكله رسمي إذ إن تنوع الأبواق ما هو الا تعبير عن تنوع الأمراء). كذلك تعاملت حماس (ولا تزال تتعامل) مع الحكومات الغربية الرسمية بالكثير من فكر التمنّي المبنيّ على الظن، أن الغرب سيتعامل بإنصاف بمجرد تقديم القرائن له. وهذا ما يفسر لجوء حركة حماس إلى صفحة الرأي في جريدتيْ «الواشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» لشرح موقف الحركة من التطورات بدل مخاطبة الجمهور العربي. وحاول مسؤول حماس أن يعرض في الصحيفتين حسن السلوك على الرأي العام الأميركي. قد يكون ممثل حماس خُدع بشعار فوكس نيوز «منصف ومتوازن»، فصدّقه.
والتعامل الإعلامي العربي مع أحداث غزة فيه الكثير من النفاق والقليل من المواقف المبدئية. حاول البعض على شاشات التلفزيون أن يتصنّع الاستفظاع من أعمال عنفية لحركة حماس. هؤلاء لم نسمع منهم صيحات أو تأوهات في الوقت الذي لم تتوقف فيه إسرائيل عن قتل المدنيين الفلسطينيين (والفلسطينيات) عبر السنين الماضية (قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة وبعدها). ثم أين كانت أخلاقيات اللبراليين العرب عندما كانت عصابات الدحلان تنكّل بالمناضلين الفلسطينيين وتقتلهم (وبينهم يساريون علمانيون) في الوقت الذي انصرف فيه هؤلاء الى الترويج لأوسلو. لكن هذا هو نهج اللبرالية العربية: نهج يستفظع أية إهانة لفظية لليهود (ولا ضير في هذا الاستفظاع في ذاته) ويسكت عن دكّ مخيم فلسطيني آهل بالسكان من جانب الجيش الإسرائيلي (أو اللبناني). يثور اللبراليون العرب إذا ما أظهر أحدهم عداء للغرب، لكنهم يؤيّدون عمليات إبادة تنفذها الأنظمة العربية نفسها التي تحظى بتأييدهم وتهليلهم. لكن هناك بين الحين والآخر من ينتقد اسرائيل بين اللبراليين العرب إذا ما رأوا في فعلة ما (من إسرائيل) ضرراً على مصالح التطبيع مع إسرائيل، أو على «صورة إسرائيل» في العالم العربي (وفق عبارة جهاد الزين في جريدة النهار، وهي تُعدّ جريدة «لبرالية» في لبنان ويمينية في أي مكان آخر. لكن يجوز للبنان ما لا يجوز لغيره، وذلك بسبب طبق التبولة الشهير على ما نظن).
غير أن على حركة حماس أن تجيب عن عدد من الأسئلة: هل قطعت حماس وعن اقتناع مع تجربة بداياتها والتي شابها الكثير من التعصب والتزمّت والاستفزاز الديني والجنسي ومن التحليلات التي تجاهلت الوجود المسيحي (وحتى اليهودي على المستوى الإنساني)؟ كيف ستتعامل حماس مع المجتمع الفلسطيني المتنوع والمتسامح، والذي شهد منذ انطلاقة جذوة الرفض الفلسطيني للاستعمار الصهيوني حراكاً نسائياً مميزاً وشجاعاً؟ كيف تفسّر حماس توقيت قيامها بالسيطرة العسكرية على غزة؟ هل تظن حماس أن وحشية عصابات الدحلان كافية لتسويغ أعمال وحشية قام بها مقاتلون لحماس، الا إذا كانت الحركة تنوي استبدال سلطة قمعية بأخرى؟ ما هو برنامج حماس السياسي في المرحلة الراهنة: مع أوسلو أم ضد أوسلو؟ هل ترى حركة حماس أن المجتمع الفلسطيني مجتمع ذو هوية دينية واحدة؟
إنّ الاجابة عن هذه الاسئلة يمكن أن تجلي للجمهور العربي والفلسطيني الكثير من الأمور التي ضاعت بين سرّية قرار حماس وبين تبنّي الإعلام العربي السعودي (الحريري في لبنان) الصريح لمشروع محمد دحلان، وما يمثل من ظاهرة مرَضية في تاريخ النضال الفلسطيني.
تقترب ادارة بوش من نهايتها: فالسنة الأخيرة هي، بمعيار السياسة الاميركية، لتصريف الأعمال ليس إلا، وذلك بسبب الانهماك بالانتخابات الرئاسية. وفي الأشهر المقبلة، سيحاول الرئيس الاميركي ما أمكن ترتيب العالم العربي، لا لإعادة هيكلته مثلما كان المبتغى، بل للتقليل من حجم الخسارة والتخبط اللتين تعانيهما السياسة الاميركية الخارجية في العالم العربي. ويعترف حتى المحافظون الجدد، وإن لم يعترف من حاباهم في الإعلام العربي، بأن كل فرضيات المشروع الاميركي في المنطقة وتمنياته سقطت الواحدة تلو الأخرى. والوضع الفلسطيني يمثّل نقطة التقاء بين المشروعين الإسرائيلي وما بقي من المشروع الأميركي. والحكومات العربية، بالرغم من عدم صدقيتها (أمام شعوبها وأمام العالم) وانعدام شرعيتها الشعبية، تهرع كالعادة لتنفيذ ما يُطلب منها. والشعب الفلسطيني يرزح تحت احتلال تفاقم بعد اقامة وهم السلطة (مثلما سمّاه رشاد أبو شاور) المتمثّل في أوسلو. لكن القنوط والاكتئاب المنتشريْن يساعدان في إيجاد مناخ مؤاتٍ لتمرير مشاريع معادية لمصالح الشعب الفلسطيني. غير أن هناك حقيقة مضيئة: فبعد مئة وعشر سنين على عقد المؤتمر الصهيوني الأوّل في سويسرا، فشل المشروع الصهيوني في تطويع الشعب الفلسطيني وفي الحصول على قبول عربي لفكرة اسرائيل، مهما افتتحوا من سفارات إسرائيلية في عواصم عربية تحتاج الى جيوش جرارة لحمايتها من غضب ما كان يسمى بـ«الجماهير» (أو ما يسمى في الصحافة الأميركية بـ«الشارع العربي» ـــــ والتسمية للتحقير).
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)