اشارت آخر الإحصائيات حسب تقارير صحافية إلى أنّ أوروبا تصدرت قائمة رافدي تنظيم «داعش» بالمقاتلين من مواطنيها، وحظي الغرب بنصيب الأسد من المهاجرين للقتال في صفوف «داعش» خلال العام الأخير، وأن أعداد المهاجرين الأوروبيين للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية مرشحة للارتفاع بنسب عالية خلال الفترة القادمة. هذه الإحصائيات والتقارير تدفع بنا إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذه الأرقام المرتفعة، وعن الدور المشبوه لأوروبا الذي تظهر ملامحه بشكل لافت للنظر في المشهد العام الذي يُرسم للمنطقة.
تعيدنا الذاكرة في بحثنا عن مقاربة تاريخية لما تقوم به أوروبا حالياً إلى نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حين لعبت دول غرب أوروبا بالمشاركة مع أميركا دوراً كبيراً في تهجير مواطنيها اليهود وتعديل وجهة هجرات اليهود الراغبين بالقدوم إليها من دول شرق أوروبا كروسيا القيصرية وغيرها لتكون أرض فلسطين هي وجهتهم البديلة، حيث وجدت أوروبا في ذلك مخرجاً لها ينقذها من شبح الدخول في صراع مع التطرف اليهودي الذي بدأ يؤثر بشكل واضح في الداخل الأوروبي والغربي من خلال رجالات ومنظمات يهودية تملك المال والعلاقات التي من الممكن أن تخلق تهديداً جدياً على أوروبا ودول الغرب ومعاييرها وبنية مجتمعاتها وثقافتها واقتصاداتها .
وإسهاماً من دول الغرب وأوروبا وعلى رأسها بريطانيا في إبعاد هذا التطرف وتحويل وجهته، اعتمدت الحل الصهيوني للمشكلة اليهودية الذي طرحه تيودور هيرتزل حين دعا الحكومة البريطانية عام 1903 إلى استقبال اليهود في مكان أخر بدلاً من وضع قيود صارمة على دخولهم إلى بريطانيا، لذلك قامت دول أوروبا والغرب بعملية استباقية تمثلت بدفع هذا التطرف خارج أراضيها، من خلال تبني فكرة الدولة اليهودية، ليمنح رئيس الوزراء البريطاني بلفور اليهود عام 1917 وعداً بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني حينها، وتشاركت جميع دول أوروبا وأميركا في المساعدة على قيام هذا الكيان وقدمت له كل الدعم ليكون مقصداً ليهود العالم وخاصة المتطرفين منهم الذين يشكلون التخوف الأكبر لأوروبا، ثم جعلت أوروبا ودول الغرب من هذا الكيان المصطنع ذريعةً ومبرراً دائماً للتدخل في شؤون دول المنطقة للسيطرة على مقدرات وثروات وإمكانات هذه الدول.
في وقتنا الحالي، تسعى أوروبا والغرب إلى استنساخ هذه التجربة عبر إيجاد كيان جديد تحت مسمى «الدولة الإسلامية» ليشكل جغرافيا استقطاب للمتطرفين الإسلاميين الذين نشأوا على أراضي أوروبا والغرب، بعدما فُتحت في البداية الحدود وقُدمت التسهيلات بحجج حقوق الإنسان والحريات وقوانين اللجوء الإنساني والسياسي لأعداد كبيرة من رموز وشخصيات إشكالية على المستوى السياسي والديني من معظم دول المنطقة، لتكون أوروبا ودول الغرب ساحة آمنة لهم في تحركهم وترجمة أفكارهم المتطرفة، ولتكون حاضنة توفر لهم كل الوسائل والمستلزمات المطلوبة تحت رعاية استخبارية غير معلنة لتشكيل وتهيئة أفراد ومجموعات تحمل أفكاراً متطرفة يتم توجيهها عند الحاجة عبر غرف عمليات خاصة إلى الدول والساحات التي يستهدفها المشروع الأوروبي والغربي في استراتيجياته التي يرسمها لمنطقتنا وللعالم.

اعتمدت أوروبا، وعلى
رأسها بريطانيا، الحل الصهيوني للمشكلة اليهودية

نجح مشروع أوروبا والغرب إلى حدٍ ما في زرع نواة كيانه الجديد «الدولة الإسلامية»، حيث أسهمت تلك الدول بشكل فاعل في تقديم التسهيلات والدعم اللازمين لقيام هذا الكيان. البداية كانت في التغاضي المقصود عن النشاطات المشبوهة التي بدأتها وطورتها التنظيمات الإرهابية على الأراضي الأوروبية وغيرها من الدول الغربية وأميركا، والتساهل والدعم أحياناً للدور الذي قامت به شخصيات ومجموعات كثيرة لتجنيد واستقطاب مواطنين يحملون الجنسيات الأوروبية والغربية من أصول إسلامية وأصول غربية للانضمام إلى المجموعات المسلحة والتكفيرية وتسهيل هجرة هؤلاء للقتال في كل من سوريا والعراق ومناطق توتر ونزاعات أخرى. دعمٌ وتسهيل يبقى مستمراً طالما أن هذا التجنيد وهذه الهجرة تصب في خدمة أجندات ومشاريع واستراتيجيات دول أوروبا والغرب في منطقة الشرق الأوسط الذي يشكل قبلة الاهتمام الاقتصادي والعسكري والأمني لأوروبا والغرب. كما تمكنت تلك الدول باتباع سياسة التسهيل وإظهار الرضى والتشجيع لتلك التنظيمات والمجموعات من كشف الأشخاص والخلايا النائمة في داخل مجتمعاتها والمنتشرة بين مواطنيها الجدد ومواطنيها الأصليين الذي انساقوا خلف الأفكار المتطرفة لهذه المجموعات، وبعدما نجحت في تحريضهم على الظهور قامت بدفعهم للهجرة باتجاه دولتهم المنشودة «دولة الإسلام»، وكان كل الأمل أن تكون هجرتهم دون عودة.
لكن من الواضح أن الغرب وأوروبا لم يكونوا ليقفوا عند أعداد المهاجرين إلى «الدولة الإسلامية» لو أن الهجرة كانت باتجاه واحد، إلا أن عودة أعداد كبيرة من هؤلاء الذين تمرَّسوا في فنون القتال إلى بلدانهم التي خرجوا منها، هي التي جعلت هذه البلدان تدق ناقوس الخطر. فالعودة لم تكن محمودةَ العواقب حيث حمل أولئك معهم فكراً لم يجد إلا الإرهاب ترجمة له في الداخل الأوروبي والغربي.
الآن يتحرك الأوروبيون ودول الغرب بشكل حثيث ويبحثون عن أفضل وأنجع الطرق للحد من ظاهرة الهجرة المعاكسة وعودة مواطنيهم المقاتلين السابقين في «دولة الإسلام» إلى بلدانهم التي خرجوا منها، ويدرسون كيفية تحصين بلدانهم ومجتمعاتهم من تداعيات هذه الظاهرة التي باتت تؤرقهم في عقر دارهم. كما يقف الأوروبيون ودول الغرب أيضاً حائرين أمام ظاهرة تجنيد مواطني دولهم في تلك التنظيمات وإيجاد الطرق المناسبة للتخلص من هذه الظاهرة.
الخروج من هذا المأزق يبدأ بالضرورة من إظهار نية حقيقية وصادقة من قيادات تلك الدول وأجهزة استخباراتها للكف عن محاولات استنساخ تجربتهم الأولى في المنطقة حين زرعوا كيان «الدولة اليهودية» المتطرف والمعادي لكل محيطه، وبالتالي لا بد من أن تتوقف أوروبا ودول الغرب عن لعب الدور المشبوه في قيام «الدولة الإسلامية» لتكون حليفتهم وقاعدتهم الجديدة لعدوانهم على المنطقة بما يخدم مشاريعهم واستراتيجياتهم.
كانت الغاية المرجوة من هذا التطرف والإرهاب هي أن يكون سلاحهم الفتاك، وأن يبقى طيِّعاً في أيديهم وخاضعاً لإراداتهم وخارج حدود جغرافياتهم، لكن ما أثبتته الوقائع على الأرض حتى الآن أن أوروبا ودول الغرب فشلوا في تحقيق ذلك أو في تجنب عواقب العبث بهكذا
سلاح.
* إعلامي سوري