حكمتْ محكمةُ المطبوعات بغرامة ماليّة كبيرة على مجلّة «الآداب» بسبب نشر رئيس تحريرها سماح إدريس افتتاحيّةً انتقد فيها، في ما انتقد، السيّد فخري كريم، ولمّح إلى ما كانت قد ذكرتْه جهاراً نهاراً عشراتُ الأقلام من اتهام السيّد كريم بسرقة أموال، ومن عمل بعض «الشيوعيين العراقيين القدامى/ الجدد» مع استخبارات عربيّة وأميركيّة وبريطانيّة (وهنا أختلف مع بعض الذين حاولوا الدفاعَ عن إدريس قائلين إنّه لم يقصد السيّد كريم من جملة أولئك «الشيوعيين»).نفهم أن يردّ أحدٌ على كلام قيل بحقّه، في مقالة ما، بمقالة كاملة يبيّن فيها بطلانَ «الادّعاءات» التي سيقتْ بحقّه؛ فالفكر والفكر المضادّ قد يصحّحان أحدُهما الآخرَ، ويعطيان نظرةً أشمل عن حقيقة ما،

وخاصّةً عندما يتعلّق الأمرُ بقضيّة فلسفيّة أو سياسيّة ما.
إنّ الكلام الذي أطلقه إدريس في افتتاحيّته عام 2007 كان من النوع السياسيّ النقديّ للواقع المعيش في بعض البلاد العربيّة، وفي العراق على نحو أخصّ. ومن حقّه كإنسان أن ينتقدَ ما يعتقده خطأً، بناءً على منظومة عقائده هو. ومن حقّه أن يتّهم مَن يشاء ممّن يعملون في الحقل العامّ، السياسيّ كما الثقافيّ، بما يراه خطيئةً كبرى وضرراً أكبرَ يَلْحق بالناس، ودائماً من وجهة نظره هو. ومن حقّ غيره أن يواجهَه ويحاججَه انطلاقاً من منطلقاته وخلفيّاته أيضاً، وأن ينتقدَ ويهاجمَ منطلقات إدريس نفسها. غير أنّ إدريس لم ينتقد الموقفَ السياسيّ لإنسان يعمل في الحقل العامّ فحسب، بل انتقد أخلاقيّاته أيضاً؛ وهذا أمرٌ ضروريّ هو الآخر لأنّ الأخلاقيّات هي ركيزةُ كلّ عمل عامّ.
ولكنْ هل من حقّ الإنسان أن ينشر اتّهامات تتعلّق بالأخلاقيّات التي يمارس بها أحدُهم دورَه في الحقل العامّ (اتّهامات السرقة مثلاً)؟ لا أعتقد أنّ ذلك حقٌّ بالمُطلق، إذا يجب تجنّبُ نشر التلفيقات مثلاً، وذلك من منطلق أخلاقيّ. ومع ذلك أقول إنّ نشر الاتّهامات ليس حقّاً فقط بل هو واجب أيضاً إنْ كانت هذه الاتّهاماتُ صحيحةً. ولكي يُتأكَّدُ من صحّتها يجب ذكرُ المراجع والأدلّة، وكذلك احترامُ حقّ الشخصيّة العامّة المنقودة بالردّ والتوضيح. لقد ذكر إدريس مراجعَه بالنسبة إلى فخري كريم في مقالات له لاحقة، وليته كان قد ذكرها في افتتاحيّته موضوعِ الدعوى.
مهمّة العاملين في حقليْ الإعلام والثقافة هو أن يمثّلوا مجالاً مستقلاً عن السلطات السياسيّة، بل القضائيّة أيضاً
ولكن لنفترض أنّ الصحافي أو المثقّف أخطأ في اتّهامه، فإنّني لا أعتقد أنّ خطأه يواجَه بالقضاء. فمثلاً، لو أنّنا أردنا أن نرفع دعوى ونغرّم كلّ مَن يتّهم آخر بالسرقة، لكان على السياسيّين اللبنانيّين أن يطلبوا إحالة مجمل الشعب اللبنانيّ على القضاء للمطالبة بغرامة منهم جميعهم، ولاضطرّ القضاءُ إلى مواجهة الشتم واتّهامات الناس بعضهم بعضاً كلّ يوم في الشوارع والساحات! ولو أنّ هناك تحاملاً ما متواصلاً في إعلام ما فسيسقط من ذاته؛ فالإسفافُ يدين ذاتَه، ويغربله الناسُ عبر تاريخهم الجماعيّ. وعلى كلّ حال يمْكن مواجهةُ الكلمة بالكلمة، ويمكن للإعلاميّين أن يتّفقوا في ما بينهم على تنظيم شؤون مهنتهم بعيداً عن المحاكمات.
إنّ مهمّة العاملين في حقليْ الإعلام والثقافة هو أن يمثّلوا مجالاً مستقلاً عن السلطات السياسيّة، بل القضائيّة أيضاً، لنقدها وتصحيحها إنْ أمكن. ولهذا فمن الضروريّ المحافظة على إمكانيّة نقد هذه السلطات بل اتّهامها كذلك... على أن يلتزم المنتقِدون والمتّهِمون بأن يفتحوا مجالهم الإعلاميّ والثقافيّ أمام الذين ينتقدونهم لكي يردّوا على ما يساق عنهم من آراء. وإدريس كان شفّافاً في هذا المجال، إذ فتح صفحاتِ «الآداب» أمام مَن يشاء الردّ، فجاء النقاشُ مفيداً. إنّ استخدام القضاء، في رأيي، يجب أن يكون متوجّهاً أساساً لفرض حقّ الردّ إنْ لم يُحتَرَمْ هذ الحقّ، لا لتغريم المنتقدين العاملين في حقلَي الإعلام والثقافة ومعاقبتهم!
إنّ حماية مجال حرّية التعبير في حقليْ الإعلام والثقافة تساهم في صونهما من الخضوع للسلطات الأخرى، ومنها السلطة القضائيّة (المسيّسة في أحيان كثيرة وبلدان عديدة) وسلطةُ المال، وذلك لكي يكون الفيصلُ هو النقاش والعقل انطلاقاً من مختلف الأخلاقيّات والمنظومات الفكريّة والتوجّهات الإيمانيّة التي يعبّر عنها أصحابُها في حرّية. إنّ جوّاً كهذا من شأنه أن يُنعِش وطناً بأكمله. ومن هنا، فإنّ من الضروريّ القيامَ بحملة واسعة، على مراحل متصاعدة، يقودها الإعلاميّون والمثقّفون، المتضرّرون المباشرون من سيف قانون المطبوعات، لتغيير واقع هذا القانون في لبنان، على أن يسْعوا كي يشاركَ في هذه الحملة أكبرُ عدد ممكن من الناس، لكون الناس عامّةً متضرّرين غير مباشرين (بل مباشرين!) من هذا الجوّ التهديديّ في الحقل الإعلاميّ والثقافيّ.
إنّ الدعوى على مجلّة «الآداب» يجب أن تُقرأ من زاوية أبعد من فخري كريم وقرار المحكمة: إنّها مشكلةُ تضييق على إحدى مساحات الحرّية الفكريّة في بلاد عربيّة غارقة حتّى أذنيها في الإرهاب الفكريّ، السافر منه والمبطّن، العسكريّ الفجّ والماليّ الناعم. كلّنا في المرْكب نفسه في اعتقادي، مرْكبِ منطقتنا المخلّع، ونحتاج أن نتعاونَ كي نُبقي على كلّ طوْق نجاةٍ فكريّ وحضاريّ فيه. و«الآداب» هي واحدٌ من أطواق النجاة الممكنة تلك، وإنّ الانتصارَ لها أمرٌ ضروريّ لكلّ مَنْ يرى أنّ الإنسان، بحرّيته وكرامته في آن، هو الأولويّة.
إنّ الدفاع عن «الآداب» ليس دفاعاً عن حرّية التعبير فقط؛ فمن حقّ الجرائد والمجلات التي تتّخذ مواقفَ فكريّةً معاكسةً لهذه المجلة أن تكون حرّةً في التعبير، ويجب الدفاع عن حرّيتها تلك: ذلك لأنّ «مَنْ يحبّ الحرّيّة حقًّا هو من يدافع عن حرّيّة غيره»، كما يقول الفيلسوفُ الأرثوذكسيّ بردياييف. الدفاع عن «الآداب» أبعدُ من ذلك: إنّه دفاعٌ عن موقف فكريّ يقول بالوقوف إلى جانب الإنسان كلّه في حرّيته وكرامته اليوميّة؛ إنّه دفاع عن موقف فكريّ يقول إنّ حرّية التعبير ليست كافية؛ فهذه تكون بلا أفق حين لا يستطيع المرءُ تأمين قوته اليوميّ أو مأواه أو استشفائه.
لم تمتشق «الآداب» قلمَ الدفاع عن حرّيةٍ جوفاءَ مخادعة لا تكترث بكرامة الإنسان وحياته، وإنّما تدافع عن خطّ تحرّر الإنسان، «كلّ إنسان وكلّ الإنسان». من هنا يجب الوقوفُ مع هذه المجلة. لذا نشأتْ حملة ملموسة (www.adabmagclub.blogspot.com)، لسانُ حالها: «أنا أدعم مجلة الآداب، إذاً أنا أشترك فيها اليوم». وبتحرّك كهذا، محسوس، وحاضر، يستطيع كلّ إنسان مقتنع بتوجّه «الآداب» أن يتضامن مع نفسه بتضامنه معها، الآن. وعلى المدى الأطول، يجب أن يترافق ذلك مع السعي إلى إعادة النظر في واقع محكمة المطبوعات في لبنان.
بمجلة «الآداب» نحافظ على ضوء في منطقتنا، لا نودّه أن ينطفئ. وأن نساعد ضوءاً على استمرار اشتعاله، فذلك أسهلُ وأفضلُ من إشعال ضوء جديد!
* أستاذ جامعيّ في جامعة يورك ــــ كندا