تونس | أعلنت رئيسة الحكومة التونسية، نجلاء رمضان بودن، أوّل من أمس، تركيبة حكومتها المؤلّفة من ستّة وعشرين وزيراً، من بينهم عَشر وزيرات نِلْن حقائب سيادية وحيوية. ولكن الرئيس التونسي، قيس سعيد، استأثر كعادته بالاهتمام في هذه المناسبة، بما خفّف حدّة الأضواء التي كانت ستُسلَّط على الأسماء المسنَدة إليها الحقائب، وقلّص مساحة التساؤل حول برنامج الحكومة وهامش استقلاليّتها، لصالح النقاش في تفاصيل خطاب الرئيس ورمزيّاته. وجاء هذا الإعلان بعد قرابة أسبوعين من اختيار بودن لتشكيل الحكومة، التي بدت بصمة سعيد واضحة فيها عبر عدّة أسماء من زملائه من أساتذة القانون أو طلَبته. ووجّه الرئيس، خلال الكلمة التي ألقاها على هامش أداء الطاقم الحكومي الجديد اليمين الدستورية، وابلاً من الرسائل إلى خصومه السياسيين، وكرّر مرّة أخرى تحذيراته التي ظهرت أقلّ تشنّجاً، ممّا كان عليه الحال في كلمته قبل أيام قليلة حين توجّه بعبارات حادّة إلى حركة «النهضة» التي دعت إلى «يوم النفير» ضدّه، بتظاهرات خرجت في العاصمة يوم السبت الفائت. وبدا خطاب سعيد مطوّلاً مقارنة بالحيّز الذي يتّخذه عادة إسهام الرئيس في حدث بروتوكولي كأداء اليمين الدستورية. وعلى امتداد العشرية الماضية، كانت الكلمات المطوّلة في مرحلة تشكيل الحكومة مقتصرة على نوّاب البرلمان في جلسات منح الثقة، التي تمتدّ أحياناً لأكثر من يوم. ولم يخصّص سعيد خطابه لتقديم توصياته للحكومة كما فعل مع رئيسَي الحكومتَين السابقتَين، وإنّما لتحذير خصومه من القيام بـ«أيّ أعمال تُعرّض مصالح الدولة التونسية للخطر»، خاصة بعد أن أبلغته «دول صديقة بأن شخصيات تونسية سعت لإثناء فرنسا عن عقد القمة الفرنكوفونية في تونس»، على حدّ قوله. وأتت تلك التحذيرات إثر دعوة الرئيس الأسبق، منصف المرزوقي، فرنسا، إلى مساعدة معارضي سعيد على الإطاحة به ومحاكمته، لأن ذلك يصبّ في مصلحتها، محذراً إيّاها من تنامي خطاب معادٍ لها في تونس بفضل الرئيس الذي لم يتأخّر في استغلال تصريحات المرزوقي، وأيضاً هجوم أنصار حركة «النهضة» على صحافيي التلفزيون الرسمي في مسيرة السبت، لتدعيم اتّهاماته لخصومه. من داخل المصعد الاجتماعي نفسه الذي جاء منه سعيد وجميع مستشاريه، انتقى الرئيس وزراءه؛ إذ إن أغلبهم منتمون إلى الطبقة الوسطى، وخرّيجو جامعات وطنية، تدرّجوا مهنياً داخل دوائر القرار دونما انتماء سياسي فجّ، بما يجعلهم أقرب إلى التكنوقراط. أرضى سعيد بذلك فئات واسعة من الرافضين لعودة الدوائر المتنفّذة من سفارات ورجال أعمال وعائلات نافذة إلى تقرير هويّة الوزراء وفق مبدأ الولاء وخدمة الأجندات الخاصة بهم. وباستثناء مَن تولّوا حقائب وزارية في الحكومتَين السابقتَين (حكومة إلياس الفخفاخ وحكومة هشام المشيشي)، ليس ثمّة خبرة في قيادة الشأن العام لدى الوزراء الجدد، علماً أنه تمّ اختيار أغلبهم للأسباب عينها التي اختار لأجلها القصر الرئاسي، هشام المشيشي، في فترة سابقة، وهي تَميّزهم الأكاديمي، وعدم انتمائهم إلى أيّ طرف، وانحدارهم من الدوائر الحكومية، ومعرفتهم بطريقة سير الإدارة لا أكثر.
يجزم متابعون للشأن السياسي أن حكومة بودن ستكون أكثر الحكومات سيراً على صفائح ساخنة كثيرة

ويُعتبر هذا الأساس في الاختيار سلاحاً ذا حدَّين؛ فالمشيشي وأسماء أخرى رافقته في الحكومة سرعان ما عقدوا اتفاقات سياسية من أجل استدامة المنصب والدعم السياسي، وخذلوا سعيد، واليوم لا ضمانة بعدم تكرّر السيناريو ذاته، باستثناء تحجيم القصر الرئاسي للدور الحزبي وإنهائه عمل البرلمان، الذي بدا واضحاً أن لا نيّة البتّة لإعادة تفعيله، بعدما قرّر سعيد تمرير طاقمه الحكومي بقرار رئاسي، بما يلغي الدور المتبقّي لهذه المؤسسة، وهو المصادقة على أعضاء الحكومة ومنحهم الثقة. ولم يتردّد سعيد في تأكيد ذلك في خطابه، حيث استعاد صور المشاحنات العنيفة التي شهدها مجلس النواب في الفترة الأخيرة السابقة لقرارات 25 تموز، لتدعيم سرديّته حول أن البلاد حكمتها «ديمقراطية شكلية فتحت الباب للفوضى والعنف والتمرّد على الدولة»، ولا يمكن استعادتها بالشكل الذي كانت عليه.
هكذا إذاً، أُغلق قوس تشكيل الحكومة، ليُفتح آخر متّصل بمدى نجاعتها وقدرتها على إنجاز مهامّها في ظلّ اقتصاد متهالك، وأمام تحدّيات صعبة على أكثر من صعيد. إذ ستجد حكومة نجلاء بودن نفسها مضطرّة لخوض معركة إثبات الشرعية، عبر السعي للسيطرة على عجز المالية العمومية المتفاقم، وتحقيق انتعاشة على مستوى المعيشة اليومية للتونسيين، لترّد بذلك على الطاعنين في شرعيّتها القانونية والدستورية. ويجزم متابعون للشأن السياسي أن حكومة بودن ستكون أكثر الحكومات سيراً على صفائح ساخنة كثيرة؛ فالطبقة السياسية التي تَعتبر ما حدث في البلاد «انقلاباً ناعماً» على الدستور، لن تتوانى عن مهاجمتها، وقد تدفع أطرافاً تمكّنت من مفاصل الدولة طيلة العقد الماضي إلى عرقلتها. كذلك، تُواجه الحكومة تركة ثقيلة من الدين الخارجي والداخلي، يصعب سدادها من دون التوجّه إلى شركاء تونس والمانحين الدوليين، وكلا الطرفَين ليسا بـ«الجمعية الخيرية» التي تساعد الدول من دون اشتراطات أو ضمانات لقدرتها على سداد الديون، وما على رئيسة الحكومة وطاقمها، والحال هذه، سوى العمل جاهدين على إقناع المانحين بأهليّة البلاد للعودة إلى نشاط اقتصادي في مناخ مستقرّ وسليم وسياسة جبائية ناجعة. المفارقة أن سعيد نفسه يمكن أن يصعّب الأمر على الحكومة، ويجعلها في موقف ضعيف أمام الرأي العام الدولي، إذا ما أَعلن عن بقيّة «الإصلاحات السياسية» التي وضع تصوّراتها منفرداً، والمتعلّقة بتشكيل لجنة للإصلاح السياسي، وعقْد حوار وطني مع الشباب بعيداً ممّن ينعتهم الرئيس بالـ«الخونة والفاسدين». إذ إن تلك الإجراءات ستُواجَه بالرفض من قِبَل الطبقة السياسية، فيما لا يبدو واضحاً كيف سيتلقّاها الجمهور في ظلّ طابع التعقيد الذي يَسِم أطرها النظرية المطروحة من قِبَل سعيد. أمّا عن برنامج الحكومة، وإن لم يُنشر مفصَّلاً، فقد بدت خطوطه العريضة في خطاب رئيستها نجلاء التي أتاحت لها جلسة التنصيب حيّزاً من الوقت ليسمعها التونسيون بعد أن تواتَر ظهورها صامتة أمام الرئيس، حيث قالت إنها ستعمل وطاقمها على مكافحة الفساد كأولوية عبر المراقبة والمحاسبة، واسترجاع ثقة المواطنين في بلادهم، واستعادة الأمل بأن يتمتّعوا بكامل الحقوق عبر ضمان الأمن الصحّي والاقتصادي، مشيرة إلى أن أهمّ أهداف الحكومة يتمثّل في تنشيط الدورة الاقتصادية، وفتْح مجال المبادرة، وتحسين ظروف العيش والمقدرة الشرائية، وتوفير خدمات ذات جودة. ولم تغفل، أيضاً، ذكر الرأي العام الدولي الذي تطمح إلى كسب ثقته مجدّداً.
«العبور من اليأس إلى الأمل»، على حدّ قول الرئيس التونسي والذي استخدمته أيضاً رئيسة حكومته، يستوجب ظروفاً موضوعية ليتحقّق. فإضافة إلى المعطى الاقتصادي الأساسي في هذه المعادلة، يقتضي الأمر استقرار البلاد سياسياً وأمنياً، ورأب شرخ مجتمعي آخذ في الاتّساع بين التونسيين بعد اشتداد حرب الاستقطاب أخيراً بين أنصار «النهضة» وأنصار الرئيس. وإزاء ذلك، يبدو المشهد مفتوحاً على سيناريوات عدّة، ولكن الأكيد أن الإخفاق هذه المرّة ستكون فاتورته أشدّ وأقسى على الصعد كافة.