انتشر منذ مدة خبر عن استقالة سيلفستر ستالون ودنزل واشنطن ومارك والبيرغ، من «نقابة ممثلي الشاشة» الأميركية بهدف تأسيس ما يسمّى بـ «اتحاد ضد اليقظة». تبين لاحقاً أنّ الخبر كاذب نُشر للمرة الأولى على الموقع الساخر Dunning-Kruger Times. لدى تصفح الموقع، يظهر خيار «أثق بك» أو «أنا ديموقراطي»، ما يعكس هوية الموقع الداعم لحزب المحافظين الأميركي، ويفسّر هجومه الشرس على أفكار حركة «اليقظة».نال الخبر الزائف تأييداً على منصة تيك توك، وحظي بنوع من المصداقية بعد رفض ستالون في أيلول (سبتمبر) 2023، المشاركة في فيلم لديزني بلغ إنتاجه نصف مليون دولار، لأنه كان يروّج لأفكار اليقظة، قائلاً: «لا أريد أي يقظة في حياتي». يُخفي هذا الهجوم الإعلامي والشعبي المركّز على الحركة، خطاباً معادياً ضد النساء، وذوي البشرة الملونة، ومجتمع الميم، والفقراء... عاكساً رغبة مَن ورثوا السلطة المالية والأبوية في المحافظة على امتيازاتهم، اي باختصار امتيازات الرجل الأبيض.
إن عبارة «البقاء يقظاً» تستند إلى حكمة شائعة في أميركا السوداء، حتى إنَّ «نيويورك تايمز» وصفتها ذات مرة بأنها جزء من «اللغة الزنجيّة». حدث أول استخدام موثق لعبارة «البقاء يقظاً» في عام 1938، عندما أنهى هودي ليدبيتر، المعروف باسم «ليدبيلي»، أغنية عن تسعة رجال سود، بنصيحة للسود المسافرين عبر ألاباما «ابقوا يقظين... افتحوا أعينكم». وفي عام 1940، وعد أحد أعضاء «اتحاد عمال المناجم السود المضربين» بأنهم «سيظلّون يقظين لمدة أطول» من معارضيهم. وقبل ذلك، وتحديداً في عام 1923، كتب ماركوس غارفي «استيقظي، إثيوبيا! استيقظي، إفريقيا!» بهدف إلهام اليقظة السياسية والنشاط الاجتماعي. جذور «اليقظة» تعود إلى عام 1962، عندما عرّف الروائي الأسود ويليام ميلفين كيلي الكلمة للمرة الأولى في مقالة «إذا كنت يقظاً، فأنت تفهم الأمر» نُشرت في «نيويورك تايمز». وفي عام 1965، ألقى مارتن لوثر كينغ جونيور خطاباً حول الوعي في «كلية أوبرلين»، قائلاً: «التحدي الكبير الذي يواجه كل فرد يتخرج اليوم هو أن يبقى مستيقظاً خلال هذه الثورة الاجتماعية».
وصل الوعي إلى الألفيات عندما أعادت المغنية الأميركية إيريكا بادو شيوع «ابقَ يقظاً» في أغنيتها «المعلم الرئيسي». ترسخت العبارة عبر كوميديا «ويقظ» على هولو (2016- 2020)، وكان الهدف منها إبقاء الناس في حالة تيقّظ وانتباه دائم للظلم المحيط فينا. وبات المصطلح مرادفاً لحركة «حياة السود مهمة» وللنضال ضد عنف الشرطة.
وكأي فكرٍ تقدميّ، تمكنت الرأسمالية، بكل ما تملكه من إمكانات مادية، وماكينات إعلامية ضخمة، من تفريغ الفكرة من مضمونها، ومن أبعادها السياسية، لتبقى بعض الشعارات المضللة، وباتت أحد أساليب القمع، متسلّحة بقواعد الصوابية السياسية، لتصبح الدعوة إلى الوعي، مطلب النساء البرجوازيات مثلاً في مسعاهن إلى الحصول على امتيازات الرجل الأبيض.
يحاول الخطاب اليميني والديني اليوم تحميل «اليقظة» كل أشكال الكراهية والتحيز، حتى بات السود يتجنبون استخدامها. الحملة الشرسة على «اليقظة» بدأت في عام 2021، في محاولة من اليمين لمحاربة أي انخراط في الدعوة لتحصيل حقوق مدنية أو للعدالة الاجتماعية. وفي حلول عام 2022، أصبحت «معاداة اليقظة» أيديولوجيا بحدّ ذاتها، ومحاولة من اليمين لإعادة تصنيف التعصب كحركة مقاومة. مثلاً، قال الإعلامي في «فوكس نيوز» تاكر كارلسون، إنّ كل شيء، بدءاً من «حركة حياة السود» وصولاً إلى حلوى M&M’s البنية، هي «عناصر من أجندة «اليقظة» الشريرة»، مضيفاً أنّ التهديد من اليقظة أكبر بكثير من التهديد الروسي، وسأل: «هل سبق أن وصفني بوتين بالعنصري؟ هل هدد بفصلي لعدم اتفاقي معه؟». وعندما تملّك إيلون ماسك موقع إكس حالياً، كتب «إما أن يُهزم فيروس العقل اليقظ أو لا شيء آخر مهماً». وفي الضفة البريطانية، تولى الإعلامي بيرس مورغان قيادة الحملة، وركز هجومه على ميغان ميركل «اليقِظة».
الحملة الممنهجة على أي تغيير للهيكل القديم، تتحجج بظواهر غريبة لتقول إنّ النسويات ومجتمع الميم يريدون إقناع الناس بأن يتحوّلوا إلى كلاب، أو نشر «الشواذ» بين الأطفال، في وقت تزرع في أذهان الأطفال أفكار ذويهم السياسية والدينية، ويكبرون على هذه الأفكار، من دون أن يقلق أحد على مستقبلهم من أفكار لم يكوّنوها بأنفسهم، والكثير منها يتمحور حول رفض الآخر، المختلف دينياً وإثنياً وعرقياً وحتى سياسياً.
تشكّل محاربة أي فكرة جديدة، برغبة الحفاظ على ما هو قديم ومألوف، نوعاً من أمان نفسي، فالتغيير بشكلٍ عام فكرة مخيفة، وليس سهلاً التعامل معه، ليصبح التشبث بما هو معروف، ركيزة لمن يودون العيش ضمن أطر عرفوها وحفظوها، ونُقلت إليهم من جيلٍ إلى جيل. يأخذ هذا التشبث أشكالاً عدة من مجرد الرفض إلى حد قتل أي فرد يدعو إلى التغيير.
قال الإعلامي تاكر كارلسون إنّ التهديد الآتي من «اليقظة» أكبر بكثير من التهديد الروسي


في كتابه «الثامن عشر من برومير – لويس بونابرت»، يعتبر كارل ماركس أنّ «الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون. إنهم لا يصنعونه تحت ظروف اختيارية لأنفسهم، بل تحت ظروف موجودة بالفعل، موروثة ومنقولة من الماضي. تزن تقاليد جميع الأجيال الميتة على عقول الأحياء كالكابوس. وكما يبدو أنّهم مشغولون بثورة أنفسهم والأشياء، وخلق شيء لم يكن موجوداً من قبل، فإنه في هذه الفترات من الأزمات الثورية يستحضرون بقلق أرواح الماضي لخدمتهم، مستعيرين منها الأسماء وشعارات المعارك والأزياء لتقديم هذا المشهد الجديد في تاريخ العالم بزيّ مكرّر في الزمن ولغة مستعارة». الدعوة إلى العودة إلى القيم الأسرية، تعني العودة إلى شكل العائلة البرجوازي، حيث الرجل يمتلك السلطة المطلقة على الزوجة والأولاد، في تجسيد لديناميكيات القوة والسلطة في المجتمع، وحيث الرأسمالي يسيطر على الفئات الأخرى، بقوة ماله، ويفرض مشيئته على كل الفئات المستضعفة. العادات التي يريدون العودة إليها، ترتكز بشكلٍ رئيسي إلى التقاسم الجندري للأدوار، لتعود المرأة مسؤولة بشكلٍ مباشر ورئيسي عن الأعمال المنزلية، غير المدفوعة الأجر، وتربية الأطفال وإدارة المنزل، ولتنال الثناء على دورها وإتقانها له، من دون سؤالها عن مدى رغبتها حقاً في هذه الوظيفة. والعادات تفرض لباساً محدداً يفرض الاحتشام، كانعكاس لـ «عذرية» الأنثى، وهو أحد شروط الزواج التقليديّ، وهو إثبات أن أي طفل سيلد، معروف الأب، وبالتالي، سيذهب الإرث لابن السلالة، وهذا كان المحفز الأساسي وراء أحادية الزواج الذي فرضته الرأسمالية المشكلة حديثاً، بمساعدة الكنيسة.
في خضم هجوم مماثل، يظهر نوع من تماهٍ مع خطاب نسوي وحقوقي ليبرالي، لما يتطلب النقاش من شرح البديهيات، كأحقية عيش الأفراد بسلام، بعيداً عن ميولهم الجنسية وهويتهم الجندرية ولون بشرتهم وطبقاتهم الاجتماعية. النقطة الأساسية هي محاربة كل أشكال التمييز، وإن استطاع التمويل الليبرالي تحريف النقاش حول الذكورية والعنصرية والطبقية، ووضعها تحت تعريف واحد هو «التنمّر».
في النظر إلى النقاش بشكلٍ أوسع، يظهر تصالح الولايات المتحدة مع واقعها الدمويّ، وباتت أكثر صدقاً مع نفسها، فقد اتّحد هؤلاء الرجال في حملتهم ضد «اليقظة»، بحجة خدمتهم لأيديولوجية وطنية ستنقذ أميركا من ويلات التاريخ الأسود، والتنوع، والمساواة، والاندماج، وحقوق مجتمع الميم، وحقوق النساء. وأعادوا تعريف «اليقظة» بنجاح عبر تحويلها إلى مصطلح سلبي مرادف لانهيار كل ما هو جيد وأبيض في أميركا.