قبل كلّ استحقاق رئاسيّ حول العالم وبعده، يتحوّل الإعلام إلى مواكبة مجريات الانتخاب أو التعيين أو التمديد لفترة ليست قصيرة وغالباً ما تتّسم بالضجّة ولو غير المبرَّرة، والإعلام في لبنان ليس استثناءً. لكن كما درجت العادة في هذا البلد، كلّ الأمور تحصل «ع اللبناني»، ومَن يسكنه أو يعرفه جيّداً، يدرك تماماً ما تعنيه هذا العبارة التي ليس لها في المعمورة مثيلٌ آخر من حيث «الكوكتيل» الذي تجمعه في آن واحد. هكذا كانت الجلسة النيابية الأولى لانتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية أمس، كما التغطية الإعلامية لها.الفارق الأهمّ الذي يمكن لأيّ لبنانيّ ملاحظته بالأمس، كان طريقة تناول المرشّحين إعلامياً مقارنةً بالاستحقاقات السابقة، لا سيّما الأخير الذي انتُخب فيه الرئيس ميشال عون سنة 2016. ففي حينه لم يكن رئيس مجلس النواب نبيه برّي الوحيد الممتعض من وصول عون إلى كرسي الرئاسة، إذ كان هناك امتعاض الدولة العميقة، بما في ذلك جناحها الإعلاميّ، ولو كانت الوسائل الإعلامية تدّعي أنّ آراءها مختلفة على عكس ما تفعل اليوم. فاليوم بات هناك مرشّح هو جزء لا يتجزّأ من «حزب المصرف»، أتاها إعلان ترشّحه «شحمة ع فطيرة» للتوحّد خلف دعمه على أساس أنّه «معارض» و«سياديّ» و«ابن رينيه معوّض»، وهو النائب ميشال معوّض. ركّزت القنوات الإعلامية على التسويق للأخير، وتسابقت للحصول على المقابلات معه. كما بثّت بعضاً من سيرة سليم إدّه الذي صوّت له بعض النوّاب، وكان لافتاً في هذا السياق ظهور النائب مارك ضوّ على قنوات عدّة، خلال النهار وحتى مساءً.
صباح الخميس بدأ النقل المباشر مع افتتاح الجلسة النيابية واستمرّ حتى «فرط» النصاب. أمر استغلّته القنوات الثلاث لتوجيه السهام نحو «كتلة الوفاء للمقاومة»، وهي التي برعت في السفسطة منذ سنوات، محمّلةً «حزب الله» مسؤولية التعطيل خلال الفراغ الرئاسيّ الأخير قبل انتخاب الرئيس عون. فمَن غادر الجلسة أوّلاً كان «كتلة الأمل والوفاء»، لتلحقها «كتلة الوفاء للمقاومة» ثمّ «كتلة الجمهورية القوية». وبعدما أكّد أحد نوّاب «حزب الله» ذلك لمراسلة «الجديد» مباشرةً على الهواء، ظلّت تكرّر الاتّهام نفسه (أنّ كتلته هي التي أفقدت النصاب) أمامه في مشهدية بعيدة جداً عن أصول المهنة الصحافية وطرق مناقشة الضيف. كما استغلّ بعض القنوات تصويت أحد النوّاب لـ«مهى أميني» (يقصد مهسا أميني) للاستثمار السياسيّ ضدّ ما يسمّونه «الاحتلال الإيراني».
ما ورد آنفاً لم يكن كلّ ما شغل الإعلام أمس. «همروجة النهفات» في الجلسة تحوّلت إلى الإعلام وشغلته بقدر ما شغلت مواقع التواصل الاجتماعيّ. فقد أعدّت القنوات تقاريرَ مخصّصة فقط «للضحك»، وأبرز ما اختارته من «مقتطفات» كان بطلها رئيس المجلس. عرضت لقطات لتوجّه برّي إلى بعض النواب بالقول «شو فاتحين قهوة هون؟»، وتوجّهه للنائب نديم الجميّل بسؤاله «ما عم يخلّوك تحكي داخل حزب الكتائب بتجي بتحكي هون؟» ولنائب رئيس مجلس النوّاب الياس بو صعب بالقول «كأنّك طمعان فيها (الرئاسة) شي؟» وللنائبة بولا يعقوبيان بالقول «خلّيكي محلّك يا بولا». كما عرضت لحظة استدراك برّي أنّ عدد الحاضرين 85 فيما المطلوب هو الثلثان أي 86، وقوله «شفلنا إذا حدا بيفوت».
إذن، يبدو أنّ «بروفة» انتخاب رئيس للجمهورية لم تكن سوى حلقة تجريبية من مسلسل كوميديّ سيطول حتى انتخاب الرئيس، وما على اللبنانيّين الغارقين في الأزمات سوى الاصطفاف خلف شاشات التلفزة ومواقع التواصل لمشاهدة نوّاب الأمّة وهم «يهرّجون» ويرقصون فوق ما تبقّى من بلدهم.