«ممنوع لبنان يحترق وممنوع المواطن يختنق، هيدي عهد أمام الله»، سريعاً تنتشر العبارة بين اللبنانيين وتتحوّل إلى تريند في السوشال ميديا، تزامناً مع الحريق الذي اندلع أمس في مرفأ بيروت بعد شهر ونيّف على انفجار 4 آب الشهير. العبارة ليست لأحد المسؤولين أو السياسيين. هي لرجل عادي من رجال الدفاع المدني. لا، ليس الرجل عاديّاً، وإن كان جيبه فارغاً، واسمه مجرداً من الألقاب والرتب والمناصب، وانتظر مع رفاقه سنوات طويلة تثبيته في وظيفته «العادية» التي يمارسها كمتطوع. هذا الرجل هو يوسف ملاح الذي صار نجماً منذ سنوات، وتحوَّل إلى أيقونة في عيون كثير من اللبنانيين، بعدما تصدّى لقضية المطالبية بتثبيت متطوّعي الدفاع المدني متحدثاً بإسم رفاقه أمام مراسلي وسائل الإعلام المختلفة، مختاراً طرقاً غير مألوفة في الاحتجاج والضغط على الدولة من قبيل السباحة مرة من شاطئ الرملة البيضا إلى عمق المتوسط إلى أن يهلك فيغرق إن لم يقرّ التثبيت (وانتهى الأمر يومها بخدعة أعادتهم إلى الشاطئ). وساعده في ذلك لسان طليق وعبارات تجمع حدّاً مقبولاً من البلاغة والبساطة في آن واحد. وساعده أكثر تماهيه مع الصورة المتخيلة للبنان الحلم. فالرجل يكاد يكون بلا طائفة ولا مذهب، بمعنى أن كثيرين لا يعرفون طائفته ولا يرغبون في ذلك، ساعين للافادة من مصادفة حمله إسماً وعائلة عابرتين للطوائف في بلد الطوائف.
ومع تحوّل لبنان إلى بلد يحترق «حرفيّاً»، من حرائق تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، إلى الحرائق السياسية والاقتصادية والأمنية التي أعقبتها، إلى انفجار مرفأ بيروت والحريقين اللذين شهدهما المرفأ في ظرف شهر واحد على حصول الانفجار، ومع تزايد الكلام اثر كل حادثة من هذه الحوادث عن احتمال كونها مدبّرة وعن وجود فاعل أو متواطئ يحمل على الأغلب جنسية هذا البلد، أو وجود إهمال وتقصير وفساد بالحد الأدنى من قبل مسؤولين أو موظفين أو مواطنين «لبنانيين منذ أكثر من عشر سنوات»، كانت المفارقة أكثر جلاءً وقدرة على الاجتذاب: ثمة لبناني مستعدّ لحرق بلده خدمةً لمصلحة شخصية أو تحقيقاً لكسب غير مشروع، وثمة لبناني يندفع بشجاعة لإطفاء النيران وانقاذ البلاد ولو كلفه الأمر روحه كما حصل في انفجار الرابع من آب. النموذج الثاني يمثله بشكل صارخ يوسف ملاح.
مناسبة هذه الكلمات اعتراض البعض على الحفاوة الافتراضية الزائدة التي قوبل بها فيديو الملاح الأخير الذي أدلى فيه بالعبارة أعلاه، واعتبار المعترضين أنَّ هذه الحفاوة ليست سوى تعبير عن ميل اللبنانيين لتقديس الأشخاص، وعشق الملاح للبروباغندا.
ولكن الالتفاف حول نموذج يوسف ملاح ليس تقديساً لأشخاص بقدر ما هو احتفاء بالجهاز كله من خلاله، وبسواه من أجهزة الإطفاء والإسعاف والإنقاذ التي تنهض بجهود المتطوعين وعلى أكتافهم، وبأبطالها المضحين الذين نقلت ثلة منهم تعبير «الذوبان في حب الوطن» من كتب الإنشاء إلى أرض الواقع في يوم انفجار المرفأ المشؤوم.
فليس من الممكن أو المألوف أن يرفع الناس صور أفراد الدفاع المدني أو أن يحفظوا أسماءهم جميعاً، وليس جديداً أن ينبري شخص يحمل مواصفات معيّنة للتحوّل إلى ناطق باسم الجماعة وأيقونة لها، ولا أحد يمتلك من هذه الصفات ما يمتلكه يوسف كمتحدث لبق ذي حضور محبب وشخصية كاريزماتية وعلاقة حب متبادل بينه وبين الكاميرات لا تخفى على الناظر، وهي علاقة ليس فيها ما يشين على أي حال، فكلنا نحب أن تبلغ أصواتنا أبعد مدى ممكن حاملة أفكارنا، وبعضنا يحب أن تحمل الفكرة معها في رحلتها تلك صورته واسمه، فيما يزهد آخرون بذلك.
المهم أن الرجل لم يكذب – في سبيل ذلك – أو يزيّف أو يختلق صورة وهمية لنفسه، كما يفعل كثيرون، ولم يخدع الجمهور. كل الصور ومقاطع الفيديو المتداولة له هي من قلب المعركة، كلها بثياب ممزقة ووجه متعرّق متشح بالسواد. في فيديو آخر من الحريق الأخير، يخاطب ملاح المراسل الذي ألحَّ في طلب تصريحه بأنفاس لاهثة «فادي والله ما معي وقت» قبل أن يقرّر منحه تصريحا ًسريعا ًمن ثوان معدودة يصف فيه طبيعة الحريق وحجمه، ثم يمضي إلى متابعة عمله. لم يكن تصريحه المقتضب سوى اطفاء لنار أخرى كانت تستعر في صدور اللبنانيين الخائفين من تكرار حادثة انفجار المرفأ، لم يكن لهذه الطمأنة تأثير لو أنها صدرت عن واحد المسؤولين الرسميين الذين قللوا من حجم حريق الرابع من آب في لحظاته الأولى قبل أن يتحوّل إلى انفجار كاد يمحو بيروت عن الخارطة، ولكنها إذ تصدر عن يوسف تحظى بمصداقيّة أكبر، وهذا امتياز آخر للرجل.
ثمّ أنّ اللبنانيين اعتادوا تقديس أشخاص لا يستحقون، ورفعهم على الأكتاف، وهم أسرفوا قبل أيام قليلة في امتداح كلبة تشيليَّة قيل إنَّها اكتشفت وجود شخص حيّ تحت الأنقاض، قبل أن يتبيَّن خطأ المعلومة، فما الضير إذا احتفينا مرة بمن يستحق؟ وهل على يوسف ملاح أن يصبح زعيماً، أو ثريّاً، أو أن يمتلك جنسية أجنبيَّة كي نقول له – ومن خلاله لرفاقه – «يعطيك العافية»؟