خمسة مراهقين أميركيين انقلبت حياتهم رأساً على عقب في 19 نيسان (أبريل) من العام 1989. خرج كيفين ريتشاردسون وأنترون ماكراي ورايموند سانتانا وكوري وايز ويوسف سلام في نزهة إلى «سنترال بارك»، فألقي القبض عليهم بتهمة إثارة الشغب. شاء «الحظ العاثر» أن يتزامن وجودهم في المكان مع وقوع جريمة بشعة ستوصف بعد فترة وجيزة بأنّها «الأكثر شهرة» في أميركا ثمانينيات القرن الماضي. تعرّضت تريشا ميلي (28 عاماً) للاعتداء والاغتصاب أثناء ممارستها رياضة الجري في الحديقة النيويوركية، ما أدخلها في غيبوبة وأصابها بمشاكل صحية دائمة. رغم وجود أدّلة تشير إلى أنّ الجاني شخص واحد، قرّرت مجموعة من المسؤولين القضائيين والأمنيين، بالتواطؤ مع عدد من رجال الشرطة، تلفيق ملفّ وانتزاع اعترافات بالقوّة وتحت الضغط لتُدار أصابع الاتهام نحو الشبّان الخمسة الذين تراوح أعمارهم بين 13 و16 عاماً، وتتحوّل القضية إلى جريمة ارتكبها «همج» من أصول أفريقية ولاتينية بحق صبية بيضاء! منذ البداية، نرى كيف أن رئيسة قسم الجرائم الجنسية في شرطة نيويورك ليندا فيرستين أرادت تجنّب هجوم إعلامي، فأصرّت من منطلقات عنصرية بحتة على أنّهم مذنبون مهما أنكروا ومهما ظهر من تناقضات في شهاداتهم الصوتية المسجلة التي أُخضعت للمونتاج. وأسندت القضية إلى قاضٍ معروف بتشدّده ضد السود، ترافعت فيها ممثلة الادعاء إليزابيث ليديرر التي كانت تبحث عن قضية تشهرها، رغم عدم اقتناعها بسلامة أداء الشرطة.يُزجّ بالمراهقين الخمسة خلف القضبان، حيث يمضون سنوات يحاولون من بعدها استعادة حيواتهم. أكثر المتضرّرين كان كوري وايز الذي لم يكن في البداية مشتبهاً فيه أصلاً، إذ أمضى أطول فترة حبس وصلت إلى 12 عاماً في سجن للبالغين، لكونه كان في الـ16 من عمره. يسترجع الشبّان جزءاً من حقّهم وكرامتهم عندما تتم تبرئتهم إثر اعتراف ماتياس ريس في 2002 بأنّه مرتكب الجريمة الوحيد، ليتم التثبّت لاحقاً من أنّ الحمض النووي في مسرح الجريمة عائد إليه حصراً، ويحصل المظلومون الخمسة في 2014 على تسوية جماعية بقيمة 41 مليون دولار من قاضٍ اتحادي، ويصبح معظمهم ناشطين في مجال المساعدة والتوعية إزاء الثغرات في النظام القضائي في «أكبر ديمقراطيات العالم».
قضية رأي عام هزّت الولايات المتحدة، تحوّلت لاحقاً إلى أعمال أدبية وفنية. في 2003، أصدرت الضحية تريشا ميلي سيرتها الذاتية I Am the Central Park Jogger: A Story of Hope and Possibility، ثم أنجز كين وسارة بيرنز وديفيد مكماهون في 2012 فيلماً وثائقياً بعنوان The Central Park Five (الاسم الذي عُرفت به القضية)، وهو الاسم نفسه الذي استخدمه أنطوني ديفيس لعرضه الأوبرالي.



في 31 أيّار (مايو) الماضي، أفرجت السينمائية الأميركية آفا دوفيرناي (47 عاماً) عن المسلسل القصير When They See Us (عندما يروننا) عبر «نتفليكس»، مقدّمة قراءتها لهذه الحكاية «المرعبة»، مع العلم بأنّ منصة الـ«ستريمينغ» الأميركية تحرص منذ أشهر على إنتاج وعرض أعمال من بطولة وتوقيع سود أو تسلّط الضوء على معاناة هؤلاء وحقوقهم والعنصرية التي يتعرّضون لها، على رأسها وثائقي 13th لدوفيرناي نفسها وDear White People وBeasts of No Nation...
نجوم العمل الدرامي المؤلّف من أربع حلقات طالبوا السياسيين الأميركيين بمشاهدته، آملين أن «يلهمهم» ذلك لتصحيح المشاكل التي تشوب النظام القضائي في البلاد. أحد أبطال المسلسل الذي رُشّح أخيراً لـ16 جائزة «إيمي»، أسانتي بلاك (17 عاماً ــ لعب دور كيفين ريتشاردسون في صغره)، قال خلال حفلة شاي «بافتا» في لوس أنجلس الشهر الماضي إنّ العمل ترك أثراً كبيراً في مشاهدين لم يكونوا على دراية بهذه الواقعة التاريخية. وأضاف: «كثيرون أكدوا جهلهم بطريقة عمل النظام القضائي إلى أن تظهر مسلسلات كهذه… نحن نروي قصص هؤلاء الرجال ولا نعرض الحقائق فقط. نظهر المشاعر وحياة أسرهم ووقع وتأثير ما جرى على مجتمعاتهم». ثم شدّد على أنّه «هذا هو الوقت الذي يبدأ فيه التأثير حقاً على الأشخاص الموجودين في السلطة. في نهاية المطاف، نحن جميعاً بشر. يجب أن نكون محبّين وليس هناك شيء أفضل من ذلك».
أداء مدهش للممثلين المبتدئين والمخضرمين على حدّ سواء


When They See Us مسلسل مكثّف سريع الإيقاع، لا تبحث فيه دوفيرناي فقط في آثار عنصرية النظام الأميركي، بل في آثار جميع أنواع الحرمان من الحقوق على الطبقة والخلفية الاجتماعية لهؤلاء الأولاد. قلة الأموال التي تؤدي إلى توكيل محامين غير كفوئين، وتحرم الأمّهات من القدرة على زيارة أبنائهم المحتجزين في أماكن بعيدة. حياة الخوف والضعف التي تجعل أحد الوالدين يشجّع ابنه على التوقيع على الاعترافات المنتزعة منه تحت الضغط والتعنيف حتى يتمكن من مغادرة قسم الشرطة، والعجز في مواجهة سلطة لا تشبهك أو تهتم بك!
أداء الممثلين المبتدئين والمخضرمين مدهش على حدّ سواء، خصوصاً أسانتي بلاك وكاليل هاريس وإيثان هيريس وماركيز رودريغيز وجاريل جيروم الذين يجسّدون براءة الأطفال من جميع النواحي، ثم ضياعها إلى الأبد.
يحثّ المسلسل المشاهدين ليس فقط على إعادة النظر في ما كانوا يعتقدون أنّهم يعرفونه عن هذه القضية، والشباب السود والأقليات، والعدالة الجنائية، والأحلام الأميركية، بل أيضاً على أداء حفنة من رجال الشرطة والمحامين الذين تلاعبوا بالقانون إرضاءً لمصالحهم. ضمن قالب بصري وحركة كاميرا لافتة، تصوّر آفا دوفيرناي الأحداث المرعبة المحيطة بالقضية، والحصيلة البشعة للاضطهاد العلني والإدانة السريعة لهؤلاء الصبية وعائلاتهم، بفضل تعاونها المستمر مع المصوّر السينمائي برادفورد يونغ. يرى بعض النقاد أنّ When They See Us «أقوى» أعمالها حتى اللحظة. ولعلّ قوّته الحقيقية مستمدّة من طريقة تصويره لنظام العدالة الجنائية الذي يحبس أطفال الأقليات ويظلمهم ويستسهل التلاعب بهم وبمصائرهم. أكثر ما يميّز هذا المسلسل هو إصراره على إبراز الأولاد كما كانوا من قبل وكما رأوا أنفسهم دائماً: أبرياء. هكذا، يعيد الخماسي براءة الطفولة التي نسفتها وسائل الإعلام والشرطة والنيابة العامة إلى أبعد الحدود، كما يرثي السنوات التي خسرها الضحايا الذين أدينوا أطفالاً وأطلق سراحهم رجالاً بأحلام مقتولة.



ترامب طالب بإعدامهم
في عزّ غليان الشارع الأميركي بسبب هذه القضية، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ذلك الوقت أحد أبطال القصة، إذ تصدّر المشهد مراراً. قاد رجل الأعمال والملياردير الشهير حينها حملة إعلامية كلّفته 85 ألف دولار أميركي، طالب فيها جهاراً بإعادة تفعيل عقوبة الإعدام تحت عنوان: «أعيدوا عقوبة الإعدام... أعيدوا لنا شرطتنا». كما وصف المتهمين الخمسة بأنّهم «مجرمون وقتلة»، مستبقاً حتى انطلاق جلسات المحاكمة. في الإعلان المذكور، أكّد دونالد ترامب أنّه «أكره هؤلاء المجرمين والقتلة.. عندما يرتكبون جريمة قتل يجب إعدامهم بسبب جرائمهم... يتعيّن أن يكونوا عبرة لغيرهم حتى يفكّروا ملياً قبل ارتكاب جريمة أخرى».