حرب تنظيف عرسال وجرودها، وتطهير تلك الأرض البقاعية الغالية من شياطين التكفيريين لم تكن عسكرية فقط، بل أيضاً إعلامية، وتحديداً ما هو محسوب على المقاومة، وما هو قريب منها. لا خلاف على أنّ الإعلام الحربي في المقاومة و«حزب الله» كان في صميم الشعور الوطني، ورفع رايات شهداء الجيش وقوى الأمن على كل شبر تم تحريره من قبل رجال المقاومة، وحرّك المواطنية عند الجمهور اللبناني، وذكرنا بشهداء غيّبهم إعلام لبنان وإعلام الدولة بالتحديد.
وهذا يتطلب رفع القبعة احتراماً لذكاء الإعلام الحربي وجهود الدائرة الإعلامية في المقاومة. على صعيد الإعلام المكتوب، كان لغياب جريدة «السفير» مساحة موحشة من فراغات المرحلة. لـ «السفير» خصوصية قيّمة في نقل حرب ونصر وانتصارات المقاومة. ورغم أن جريدة «الأخبار» حاولت أن تكون الصوت والصورة والنداء بأسلوبها المعاصر في مخاطبة الجمهور، ونجحت، واختلفت منذ اليوم الأول، وقدمت معلومات خاصة وثقة، لكننا شعرنا أنّ «السفير» غائبة.
كما حاولت «الديار» و«البناء» أيضاً مجاراة «الأخبار»، لكن الأخيرة كانت شبابية في حركتها، ونشيطة تهتم بالصورة كما اهتمت بالحرف.
العديد من الإذاعات واكبت الحدث وبالتحديد إذاعة «صوت المدى» التي فتحت قبل الجميع الهواء ليسجل المواطن رأيه، ونجحت. إلا أن إذاعة «النور» كانت مختلفة عن الجميع إعلامياً. لقد شكلت ورشة مقاومة جراء إعلان الاستنفار العام من الحارس إلى عامل الشاي.
ولا بدّ من أن نشير إلى مشاركات الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تميزت هذه الحرب عن حرب تموز 2006، بشبه إجماع من مردّدي شبكات العنكبوت الإعلامي المعاصر. والأصوات الرافضة كانت تلجم بشراسة، وتختفي لقلتها، وتعود للظهور لحقدها، أو لاندفاعها من قبل المشروع السياسي الذي شعر بالخوف لفشل جماعاته ومشاريعه بعد لجم وإنهاء وجود جبهة «النصرة» في جرود عرسال!
على صعيد الإعلام المرئي، وهو الأساس، ولا يزال مؤثراً، كنا نعتقد أن قناة «المنار» ستكون الأفضل، وستكون مرجعنا، لكننا صدمنا، كونها أخفقت، وتعاملت مع الحدث كما لو كانت موظفة دولة تعمل بمستوى الراتب! ولفتتنا قناة «الميادين» التي حضرت بقوة من خلال نقل الخبر قبل غيرها، وقبل «المنار». ربما سبقتها «المنار» أحياناً في الصورة فقط، ولكن في التحليل، والريبورتاجات، والضيوف، فالغلبة كانت لـ «الميادين» وقناة «الجديد»!
اعتبرت «الميادين» أن المعركة معركتها. نزلت الأرض بثقة، ولم تقلق على موظفيها بقدر حمايتها لهم. شجعتهم على المغامرة، فكانت تغطيات شابة، ونشيطة، وسريعة.
لفتني شاب اسمه علي مرتضى، نقل جنون شبابه، عفويته، ثورته بتقاريره المبالغ فيها، بخاصة على صعيد حركات جسده. ربما تعلّم بالمرحلة وبنا، ومع ذلك كان مختلفاً عن الجميع، ومع الزمن يكبر ويلجم انفعالاته! نشراتها مدروسة، وفقراتها السياسية هادفة، ونقلها المباشر لم يكن عبيطاً. الملاحظة الوحيدة كانت حول مكياج مذيعاتها الصارخ، وهن في عرسال وجرودها مباشرة، أي في أرض المعركة، بما لا يتناسب مع هذه الطلة!
من جهتها، تميزت قناة «الجديد» في مقدمات نشراتها منذ اليوم الأول. كانت الأفضل في الريبورتاجات القيمة، والمدروسة بما ينسجم مع الحدث. ولا بد من أن نشير إلى أنها استغلت قضية والدة الشهيد علي البزال، ومواكبة تسليم الجثامين، وعودة الأسرى أفضل ما يكون، وركزت على البعد الانساني والاجتماعي في غالبية فقراتها الإخبارية، وتستحق على ذلك جائزة.

شكّلت إذاعة «النور» ورشة مقاومة بكل معنى الكلمة

لم تكن قناة «المنار» موفقة في متابعة الحرب المشابهة لحرب تموز معنوياً، والأصعب عسكرياً في جرود عرسال. شعرنا أنها تنقل الأحداث في كثير من الأحيان من باب الواجب والسبق في إيصال الصورة التي تصلها من قبل الإعلام الحربي في المقاومة، بعيداً عن قراءات استراتيجية عسكرياً!
ولا نستطيع أن نضعها في الصف ذاته، مع «الميادين»، و«الجديد» رغم استعانة هذه الأخيرة ببعض الأفلام منها. ومن الظلم أن نعتبرها مكملة لإذاعة «النور» التي سبقتها، وهما الصوت الأساسي للمقاومة. أقدّر أنّ قناة «المنار» أخفقت في أن تكون في مستوى الحدث، وفي المنافسة كونها صاحبة تجارب في أرض المعارك!
ونجحت إذاعة «النور» في التغطية على «المنار»، وتمكنت من التفوق عليها في الميدان الإعلامي والتواصل مع الناس. و«النور» على ما يبدو لديها كوادر، ومجموعة مذيعين وتحديداً السيدات، يثبتون حضوراً لافتاً، وذوي ثقة تكمل الخطاب الفكري والحزبي والحربي في الظروف المحرجة عسكرياً. لا بل إنّ «النور» تنبّهت لأهمية دورها، فنزلت إلى أرض المعركة بدراية وبمسؤولية، وواكبت المعركة بتفاصيلها، وتواصلت مع الشارع، ونبض الناس بذكاء، فخطفت المتابعة، وفتحت الهواء للجميع. والأهم هو تنوعها في ضيوفها، مع أنّها كثيراً ما تكون في الأيام العادية كلاسيكية تكرر ذات ضيوف الساسة إلى حدود الملل. ولا ندري لماذا لا توسع دائرة الطرح، والضيوف، بخاصة أنّ لديها أسماء تشكل بصمة في لغة الحوار الإذاعي، وبالأخص فقرات الصباح، وبرامجها المفتوحة في تواصلها مع الناس!
وقد كان لنزول «النور» إلى عرسال وجرودها مع ضيوفها وفريق العمل لحظات حسبت لها. تعاملت ببساطة مع هذا الكم الكبير ممن استضافتهم من أهالي الدار وزواره. وتعمدت أن يكون الحوار كما وصلنا أكثر سلاسة وعفوية بعيداً عن تعمّد ألف باء السؤال، ووضع القيود والضيوف... حوارات تشبه الناس، وتنقل تعبيراتهم الروحية ذهنياً بذكاء، وترسم المعركة باتزان رغم أهمية الحدث. المستمع كان واثقاً من أنه يسمع ويشاهد ويفكر ويستفيد كأنه شريك، وهذا ما ميّز الإذاعة عن الفضاء والصورة وقناة «المنار»، وجعلها متفوقة.
لم نشعر باختلاف «المنار» في التعامل مع هذه الحرب عن خطتها العادية. الضيوف نفسهم، مع برامج اعتمدت الثرثرة، وعدم استغلال جهود مراسليها في دعم فقراتها. المراسل ينقل بأسلوب عادي حدثاً يُفترض أنه المعني الأول به، وكثيراً ما شعرنا بأن العمل يتم بعيداً عن خطة عمل!
وخيراً، فعلت «المنار» حين استدعت الزميل علي شعيب للتغطية الميدانية. وفعلاً لتغطياته نكهة خاصة تفرض على المتابع روحية المكان من دون تصنّع ولا مبالغات.
يبقى الأهم أن تدرك «المنار» أن جمهورها يزداد في ظروف مماثلة، ويثق بها في نقل المعلومات العسكرية، لكنها في هذه المعركة اهتمت بالسياسة، وبما يقوله هذا وذاك على حساب أن تكون هي الحدث والمعلومة والمعركة، وغيبت الريبورتاج المؤثر، لا بل تعاملت معه كحشو لنشرة السابعة والنصف، وحذفته عن نشاراتها التالية، وللأسف لم يعلق في أذهاننا أي ربورتاج! وهذا خطأ إعلامي فادح لصوت مطلوب منه أن يكون صارخاً هادفاً ناقلاً لنبض الشارع المقاوم، والمعركة بعمق قضيته وأهدافه، وليس بأسلوب شاخ، ولا يعرف أن سر الإعلام بشباب الطرح وحكمة المعالجة!
على «المنار» أن تعالج الضعف والخطأ قبل النجاح، ومن ثم أن تجري نفضة في تحمل فكرة التطوير والتجديد، لأن قراءة أبعاد علاقتنا مع كل تجربة في الإعلام يبعدنا عن الإعلام الهرم، والتقليدية المميتة، فكيف بإعلام جاد وقيم تنتظره حروب ومواقف مقبلة وشرسة؟
* إعلامي لبناني