كان ينقص السيرة الذاتية للشاعر محمد الماغوط (1934 ـــ 2006) أن يُضاف إليها لقب «طافر» حتى يكتمل التعبير عن المستوى المشاكس العنيد في الرفض الذي عاشه الرجل طوال حياته. لا يكفيني القول إنه كان يعتدي بالضرب على أترابه، أو يسرق «أموال» أخيه عيسى مثلاً ليتنعّم بها، أو يجادل أمه وأباه في البديهيات الحيوية والسلوكية لا لشيء إلا ليرهقهما بالأخذ والردّ وما بينهما من استفزاز. كان الماغوط عدوّ نفسه حسب قول أحد أصدقائه القدامى، دائماً ما رفض السعي إلى ضبط تصرفاته ليبقى حرّاً بلا رقيب. وإذا حضر رقيب، كان يفكر فوراً في أسلوب التخلص منه. لقد كان شرساً في طرح أفكاره والتعبير عن ذاته، واستمرت الشراسة تلازمه طوال حياته، في علومه، في زواجه، في عمله، في كتاباته، حتى إنّ أقرب عارفيه يجزمون أنه لم يتراجع عن هذا الطبع الناري في أواخر أيامه، وكانت الأصعب بل الأفتك به وبزوجته وبمن حوله… طفولة بائسة، فتوّة ضائعة، مراهقة تكاد تكون مدمرة، وعندما انخرط الماغوط في العشرينات من عمره، كان الشعر (النثري) ينتظره عند أول منعطف، وهو «الشعر السائب» عباس محمود العقاد. ويُحسَب للماغوط أنه لم يُسَمّ نصوصه بغير كلمة نصوص. لم يكن يعترف أنه يكتب شعراً، بل نصوصاً، خصوصاً تعبير قصيدة النثر لم يرِد عنده أبداً… في الوقت الذي كان فيه الشعر العربي الحديث يغلي على تسميات وتعريفات ما أنزَل الله بها من سلطان ومنها ما هو مقبول كتعريف قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة والشعر الحر، فكان كل شاعر يحاول أن يحتفظ لنفسه بقصب السبق في افتراع نمط شِعري معين، ومنها بعد ذلك القصيدة المدوّرة وقصيدة البياض. ومجلة «شِعر» التي تعرّف الماغوط إلى رجالها ونسائها وأصبح واحداً منهم، حفظت له مكانة متميزة بين مجايليه نظراً إلى الخصوصية الأسلوبية التي وشّحت كتاباته، وهو كتب الشعر، لكن كتب المسرح وكتب المقالة. والمسرح احتل مساحة عالية جداً من اهتماماته، وبقي لقبه هو الشاعر بلا منازع، ورغماً عنه!
لم يكتب شِعراً كلاسيكياً موزوناً مُقفّى حتى في بداية البدايات على مستوى الهواية. وعندما ناداه أدونيس لينخرط في مجلة «شِعر»، كان يعلم أن تلك المجلة تفتح الخيارات في الأدب والشعر على مصاريعها، وتستقبل الترجمات بترحاب وودّ، وقد «صمدَ» الماغوط في مجلة «شِعر» حتى عام 1961 حين سافر أدونيس إلى فرنسا. وارتباط أدونيس والماغوط معاً ليس فعل صداقة، بل صداقة وقرَابة، فزوجة أدونيس هي الكاتبة خالدة السعيد (اسم مستعار) شقيقة زوجة الماغوط سنيّة صالح، والرجُلان من عمر واحد تقريباً، فضلاً عن تقاسُم الأفكار التي تتعلق بالحرية والشعر والمجتمع بينهما. أدونيس ذهَب من الكلاسيكية إلى التفعيلة إلى النثر، وبقي يكرّ ويفرّ بين التفعيلة والنثر. أما الماغوط، فدخل النثر الشعري فوراً وبقي هناك. في لغة الماغوط، بحث عن لعنة يوجهها إلى الحياة، وإلى الناس، ومحاولة لتكديس معجم المفردات المصابة باليأس والخوف والحزن والتمرد. قصائده من مطلعها إلى مهبطها سخريةٌ وتهكم وتطلّع إلى الضوء… لكن رغم هذا النوع من المشاعر السلبية التي تغمره كإنسان مسحوق، لم يكن يوماً يستجدي الإيجابية من أي شيء. السلبية كانت فضاءه ومداهُ: «قبورنا معتمةٌ على الرابيه والليل يتساقطُ في الوادي، يسيرُ بين الثلوج والخنادق وأبي يعود قتيلاً على جواده الذهبي، ومن صدره الهزيل ينتفض سعالُ الغابات وحفيفُ العجلات المحطّمه والأنين التائهُ بين الصخور ينشدُ أغنيةً جديدةً للرجل الضائع للأطفال الشقر والقطيع الميت على الضفة الحجريه. أيتها الجبالُ المكسوةُ بالثلوج والحجاره، أيها النهرُ الذي يرافق أبي في غربته، دعوني أنطفئ كشمعةٍ أمام الريح، أتألّم كالماء حول السفينه، فالألم يبسط جناحه الخائن والموتُ المعلقُ في خاصرة الجواد يلج صدري كنظرةِ الفتاة المراهقه كأنين الهواءِ القارس».
على أن المزاج السياسي الرافض الذي تجسد في الماغوط كتابةً ومقالةً وشِعراً ومسرحاً، ظل يكبر يومياً مع تصاعد حالات القهر السياسي والاجتماعي. كان الماغوط يتنمّر على المجتمع والأغنياء والفقراء وذوي السلطة وعلى نفسه وعلى «الشعب» العربي. لعل تشابيهه الغريبة والصادمة سيطرت على كل كتاباته، فكان يبتدع الصورة ويلصقها على قفا الموضوع الذي يطرحه ويضعها أمام الناس. لم يهادن. لكن كان يعرف حدوده في بلده، حيث مساحات «القول» مدوزَنة. وكغيره من الفنانين والشعراء السوريين، نال قسطاً من اهتمام السلطة السياسية به، حين مرِض. وهذا تقليد سوري جميل ومشرّف حتى لا يُترك الفنان لصروف الزمان وانهياراته. على أن المرحلة الذهبية التي عاشها الماغوط مهنياً وحيوياً، كانت بعد نجاح تجاربه المسرحية مع الفنان دريد لحّام. عدد من المسرحيات بدأت بـ «كاسك يا وطن» و«غربة» وتجاوزت العشر، فضلاً عن كتابتهِ المسلسلات الدرامية. ويقول أصدقاؤه المقرّبون إنّه كان متوازناً كأفضل ما يكون التوازن مع نفسه وأفكاره ومع الناس في تلك المرحلة. وقد أثّر في شخصية دريد لحام تأثيراً بالغاً، حتى بعدما اختلفا وكان خلافاً بشعاً رأى دريد لحام أنه كان ساعة تخلٍّ، ورأى الماغوط أنه نزل كحكم القدر، ولكنّ الاثنين اعتبرا مرحلة العمل معاً أجمل مراحل حياتهما وتخلّيا عنها جكارةً. والأثر الواضح في أفكار دريد لحام وكلماته ومعانيه التي قالها تلك الأيام للإعلام كان نتاج العلاقة مع محمد الماغوط الذي كان يهمه المجتمع وأحواله وينتصر لقضاياه، وقد وجّه الآلة المسرحية مع دريد نحو الإنسان المقموع، فأبدع الرجلان في المسرح مشاهدَ ومواقف لا تزال ماثلة في الأذهان إلى اليوم.
المزاج السياسي الرافض ظل يكبر يومياً مع تصاعد حالات القهر السياسي والاجتماعي


العمل المسرحي بين الاثنين رفع من منسوب انتماء مسرح دريد لحام إلى أن يكون صوت الناس، ورفع لغة الماغوط إلى أن تختلط بالمشاعر اليومية للناس من دون أن تتلوّث بالمسايرة أو المداهنة. وحين حصل الخلاف المستحكم بين لحام والماغوط، خسر الماغوط منبراً باسم دريد لحام يمكن أن يعبُر 7عبره إلى المجتمع بروحية المجتمع نفسه. لكن الذي خسر أكثر كان دريد لحام الذي حاول التعويض بمسرحيات لجأ فيها إلى لغة الماغوط وأفكاره وقفشاته السياسية والوطنية والاجتماعية، لكنْ عبثاً. وقد شغل هذا الخلاف الأوساط الإعلامية التي لم تستطع تفسيره إلا بالإيغو العالي للرجلين الذي أدّى إلى انهيار التجربة «كحرب عالمية».
ومن نافل القول إنّ عدداً من شعراء مجلّة «شِعر» كان يرغب في كتابة مسرح إما بالتأليف أو بالترجمة. يوسف الخال كتب مسرحاً شعرياً. أدونيس أيضاً. أنسي الحاج ترجم مسرحاً لاختبارِيِّين لبنانيين. عصام محفوظ فعل ذلك. غير أن تجربة محمد الماغوط كانت مختلفة. لم يقترب إلى الترجمة ولا إلى الاستعارة، بل غرق في تأليف شخصيات وقصص وروايات حوّل كل ما فيها إلى «سياسته» الرافضة المتهكمة عبر وجدان بشري متيقظ كان محمد الماغوط يتطلّع إليه بعيون من نار. لذلك عندما كتبَ، كتبَ متفلّتاً من أي مرجعية غير مرجعيته الذاتية الخاصة، وكان يعرف أن دريد لحام لن يحدّ من اندفاعته. واستطاع محمد الماغوط أن يثَبّت لغة مسرحية انتقادية فوّارة ونابضة بحركية وجدانية تروقُ الجمهور. الشاعر الماغوط، من دون أن يعترف، صنع في الشعر هيكلاً فنياً أَبى أن يسمّيه هيكلاً شعرياً، ولكنه انتشر وأثمر لدى كثيرين. وصنعَ في كتابة المسرح، من دون أن يُعتَرَف لهُ، هيكلاً على الخشبة احترَم البني آدم العربي وعزّز مضمونه. على أن خبراً مجهول المصدر مجهول المرامي، نَقَل في السنوات الأخيرة أن محمد الماغوط كتب ثلاثة أرباع مسرحية «المحطة» الرحبانية، وأنه بعد تقديم مسرحيته «المهرج» في السبعينيات، عمد الأخوان عاصي ومنصور الرحباني إلى استلهامها في مسرحيتهما «ناس من ورق». هكذا ، كما نقول في العامية «خبط لَزق»، صار للأخوين رحباني شريك ثالث في كتابة مسرحية «المحطة» هو محمد الماغوط . ويوضح الخبر أن الماغوط لم يطلب ذكر اسمه، بل قدم جهده مجاناً ولوجه الله. لم يعد الماغوط موجوداً لنسأله عن مصداقية هذا الخبر أو مكذوبيّته، لكن ثمة ما ينبغي أن يُذكر هنا: في مسرحية «ناس من ورق»، هناك دور لمهرّجة ترافق فرقة استعراضية، ودورها محدود، وكانت تقوم به جورجيت صايغ. لا النص المسرحي ولا الشخصيات في المسرحيتين فيهما تشابُه، ومن يعرف البعد الاستعراضي الراقص في «ناس من ورق»، لا يمكن أن يقتنع بأن يكون مهرّج الماغوط هو نفسه مهرّج الرحباني. أما كتابة ثلاثة أرباع «المحطة» بيد الماغوط، فهي تخرّصات لا يمكن أن يرتكبها الماغوط ولا أن يوافق عليها. ومعرفة أي ناقد باللغة عند الماغوط واللغة عند الرحباني، لا بد من أنه يميّز بينهما تماماً بل يحكم على هذه «الخبرية» بأنها أوهام. لكن ألا يدعونا ذلك إلى سؤال: إن مستوى محمد الماغوط في كتابة المسرحيات، له حسناته الكبرى وله ضعفه في أمكنة أخرى، كأي فنان، فلماذا تَركَ شائعة مثل هذه تتدحرج وتكبر؟ رحم الله عزيزنا المتنبي الذي قال: «وليس يصُحّ في الأفهام شيءٌ إذا احتاج النهارُ... إلى دليلِ!».
الكسور والخيبات والمعارك وزّعها محمد الماغوط على نفسه ثم على مجتمعه ثم على قرّائه. لا تستطيع رؤية قارئ الماغوط إلا وفوق ظهره أطنان من المعاناة، يساعده هو في تحمّلها، أو يروي له حكاية حتى يتناساها. وأحياناً يتهيّأ لك أنه يستحضرها فوراً من أي مكان وزمان. لا يُعنى نتاجُه بالفلسفة لكنّ الدفق الروحي والجسدي المعذَّب في النصوص يُظهِرُه كواحد من أبرع المستمتعين بالمشنقة التي تلتفّ حول عنقه ويلفها بدوره على أعناق… مَن يرغب في قراءته. مأساته الشخصية شخصية بامتياز. ومأساته الاجتماعية شخصية بامتياز. والبحث عن الخلاص فعل يتكرر من دون أن يحظى بباب خلاص. ومعاناته هي في قلب المواطن الذي حيّدوه عن القضايا وتركوه للارتزاق. وإذا ركّزْتَ في اكتشاف التواصل المشترك بين الماغوط وإنسانه، ستصل إلى شخص واحد هو محمد الماغوط. إنتاجُه الشعري كان ثلاثة دواوين، وحصاده المسرحي سبع مسرحيات. أما في الدراما التلفزيونية، فكانت له مسلسلات ثلاثة، وكذلك عمل في السينما. وله في الرواية وبعض فنون الكتابة المتفرّقة إصدارات انتقادية تبلغ الفانتازيا وهي غاية في التعبير العالي والمفاجئ. ويجمع كل هذه الأعمال ــ على اختلاف جوهرها وتفاصيلها وأغصانها ــ أنها حاولت رسْم الإنسان العربي الذي كان يمثّله الماغوط من زواياه كافة، وكان يراه في كل شخص وشارع وبلدة ومدينة. لم تكن الحرية التي طلبَها الماغوط لنفسه وشعبه بعيدة عن الحرية التي طلبَها ولا يزال الشعراء والفنانون في بقية الدول العربية. وكان مع كل جديد، سواء أكان شِعرياً أم مسرحياً، لا يتخيّل إلا أبناء العالم العربي الفقراء الأميين الذي تتحمل السلطات أميّتهم وواقعهم المزري. وكان من ثنايا الألم في التعبير يضحك، على نفسه، وعلى الجميع وتراه في نهاية كل كتاب كمن غرق مسافة إضافية على أمل قيامة البلاد والعباد. محمد الماغوط نموذج المثقف الذي ضربته سكاكين ثقافته قبل أن تضرب «الآخرين» الذين تواجههم تلك السكاكين. استعراض حياته، فضيحة!