باريس | دائماً ما كان المسرح، كما سائر الفنون التعبيرية، مَلاذاً للإنسان من بعض ابتلاءات الدهر. المسرح، لا السياسة كما يشاع، فنّ الممكن، إذ ينفصل فيه المشاهد، كما الكاتب والمُخرج والممثلون، عن واقعهم عبر العمل، ويتقمّص كلٌّ منهم دور المراقب من بُعد، ما يضعهم في مواجهةٍ مع مكامن الغلط الذاتيّ أو الجمعيّ، يتحررون من حبسها، ويغدون أكثر قدرةً على تصويبها، وهو ما أضفى على المسرح عبر العصور دوراً حيوياً علاجياً للمرسِل والمتلقي على السواء.كثيرةٌ هي الأمثلة التي تجسد هذه الفكرة، من بينها أعمال وجدي معوّض (1968)، الكاتب المسرحي اللبناني الكندي، ومدير «مسرح لاكولين الوطني» في باريس منذ عام 2016، إذ ينفُضُ كلّ عملٍ من أعماله المسرحية، الغبار عن الذاكرة ويزيل ما علق منه في أخاديد اللاوعي ويسبر أثرها على أفعال الإنسان بالغاً، مطوّعاً أعماراً كاملةً جمبازياً بأسلوب الـ «فلاش باك». تبدو الحوادث المنسية في نصوصه، مداميك في تكوين الشخصية والهوية، كما يظهر أثر اللغة والثقافة المندثرة تحت طبقات وطبقات من التراب، تاركةً مكانها شاغراً عسى أن تحل فيه وتملأه قرائنها المكتسبة في مراحل لاحقة من الحياة.


الأصول من بلدة دير القمر الشوفية، والطفولة المبكرة في بلدٍ يقف على مشارف حربٍ أهلية مدمّرة، النشأة والثقافة فرنكوفونية بعد هروب العائلة من الحرب المستعرة في لبنان إلى فرنسا، الشاهدة على آخر سنوات طفولته وبداية مراهقته، إلى أن انتهى بها المطاف في مقاطعة كيبيك الكندية، مرتع شبابه. دائماً ما كان معوّض متحفظاً إزاء نكء جراح الماضي. سنوات عدة لزِمت قبل أن يشهد عام 2008 بثّ الرّوح في مسرحيته «وحيدون» (Seuls)، كأولى حلقات سلسلة سيرته العائلية، تناول فيها خلفيّة شخصيته وثناياها، متطرقاً إلى علاقته المعقّدة بوالده، في عملٍ مسرحيٍّ بأداءٍ منفرد كان منعطفاً في مسار معوض المؤلّف والمُخرج والممثل، وعلامةً فارقةً في سجلّه الذي طبعتْه سابقاً أعمالٌ مسرحية استُلهمت من الملاحم الإغريقية، فكانت التراجيديا سمتها الغالبة. على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً، كرّت سبحة الحكاية، فنحت معوض تفاصيل سيرته العائلية عبر مسرحيات مثل «شقيقات»، و«الأم» على درب المشهدية التي ستكتمل مع آخر حلقتَي السلسلة: «الأب» و«أشقّاء».
لم تغب الحرب الأهلية اللبنانية عن أيٍّ من أعمال معوض مباشرةً أو مواربة، ولا غاب ذكر مجزرة مخيّم صبرا وشاتيلا عام 1982 التي كانت حدثاً مفصلياً طبع وعيه يافعاً. ففي عام 1978، فرّت والدته، جاكلين معوّض، من ويلات الحرب مع أبنائها الثلاثة: نايلة، الشقيقة الكبرى، وناجي، الشقيق الأوسط، وآخر العقد وجدي، ظنّاً منها أنّ سفرهم مؤقت، في حين بقي ربُّ الأسرة، عبده، في بيروت تحت خطر القصف أو التهديد بالخطف لمواصلة أعماله وإرسال المصروف الذي تحتاج إليه عائلته للعيش، أو النجاة، بعيداً من ساحة الحرب. سنواتٌ خمس قضاها وجدي مع والدته وشقيقته وشقيقه في ملجئهم الباريسي في واقعٍ يكاد لا يختلف كثيراً عن الملاجئ التي خبِرها اللبنانيون جيداً في أقبية مساكنهم في خضمّ الحرب. طال أمد مكوث العائلة في باريس خمس سنوات، ليحطّ بهم الرِّحال عام 1983، في منفى آخر هو مونتريال في كيبيك، بعدما بخلت عليهم فرنسا أيام ولاية فرانسوا ميتران بتجديد تصريح إقامتهم أو إعطائهم حق اللجوء.
لن يُقدّر لوالدة وجدي أن ترى لبنان مرة أخرى، إذ تفجع الأيام العائلة بإصابة والدتهم بورمٍ خبيثٍ تأتّى عبر عُقَدٍ ملأت جسمها المتهالك، لتغدو جاكلين واحدةً من كثيرين وكثيراتٍ لم تقسم لهم الحياة نصيباً من السعادة وراحة النفس والبال، فكانت ضحيّةً للأثر النفسيّ للحرب الذي كان كفيلاً باستحكام السرطان ببنيانها الصلب. توفيت جاكلين عام 1987، وكان وجدي يبلغ آنذاك 19 عاماً، أمّا والدته، فلم تكن قد تجاوزت الخامسة والخمسين. وعلى إثر هذه المحنة، غدت نايلة، الشقيقة الكبرى لوجدي، بمنزلة الأم، كالدرع يمتصّ الصدمات التي لم تكن تأتي على عائلة معوض فرادى. وحدها كانت نايلة قادرة على ترجمتها حيويةً وطاقةً هائلتين، وقدرةً على إدارة شؤون عائلتها في منفاها القسري. يقول معوّض إن لكلّ لبنانيٍّ والدتين: أُولاهما أمّه التي أنجبته، وثانيتهما الحرب التي تطلقه إلى الحياة، تماماً كوالدته البيولوجية. ولم تكن حاله استثناءً، فكان للحرب فضلٌ في إيصال معوض إلى خشبة المسرح، ولأنقاض هذه المأساة اليد الطولى في نحت شخصيته على ما هي عليه اليوم.
إن متابعةً تحليليةً نقديةً لأعمال وجدي معوّض كاتباً وممثلاً ومُخرجاً عبر السنوات تمكّن من الإمساك بجملةٍ من الخيوط التي تُفضي مجتمعةً إلى مزيجٍ من عدم الاستقرار المكانيّ والعائليّ والثقافيّ، تتخبط فيه الجوارح والحواس تحت وطأة الذاكرة، في حاجةٍ صارخةٍ إلى سد ثغرات الذاكرة ورأب صدوع النفس وبلسمة جراح الروح، وقبل كل هذا، إيجاد الهوية الثقافية واللغوية المفقودة. ولأنّ هذه ليست حال وجدي معوّض وحده، بل يكاد يكون حال كثيرين منا، وإن تأتّى بأشكالٍ مختلفةٍ سواء اعترفنا به في قرارة أنفسنا أو آثرنا الاستمرار بمعاكسته، لا يكاد يمرّ عرضٌ لأيّ من أعمال معوض من دون موجةٍ من التصفيق الحار الذي يطيل به الجمهور ويعيد. إلا أن السقطة الأولى والكبرى لمعوض كانت عبر مسرحيته «الكل عصافير» (Tous des oiseaux ــــ الأخبار 4/1/2019) التي حظيت بدعم وتمويل من القسم الثقافي في سفارة الاحتلال الإسرائيلي في فرنسا، وكذلك من «مسرح كاميري» في تل أبيب. مسرحية لم تُخفِ بين سطورها الرسالة المبطّنة-البيّنة التي جهد النص (الذي ربط اليهودية بالصهيونية) كما السينوغرافيا لإيصالها، ومفادها أنّ «اليهود» هم المستضعفون في الأرض، ما يمنح في نظر غير العارف بواقع الأمر، مبرّراً لسلوكيات الصهاينة الوحشية ومساعيهم الاستعمارية الاستيطانية، والتطهير العرقي الذي يمارسونه بحق الفلسطينيين، ولا يجعل من ذلك إلا أذياتٍ جانبية لمحاولاتهم رد الظلم الواقع تاريخياً عليهم، في محاولةٍ لأنسنة المحتل المجرم الغاصب مقابل شيطنة أهل الأرض والحق والقضية. لعل الترويج لهذه السردية من قبل النخب ممن امتلك أبلغ الأدوات تأثيراً لا يقلّ فتكاً عن أمضى الأسلحة.
أدان عملية السابع من أكتوبر، معتبراً مقاومة الاحتلال «قوّة ظلامية»


إن كان النص المسرحي يحتمل التأويلات أو إساءة الفهم من قِبل المتلقي كلٌّ بحسب خلفيته، لا يترك معوّض مكاناً للُّبس في مقالٍ نشره في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية في تاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، شرح فيه موقفه من أحداث السابع من أكتوبر 2023. لم ينكر معوّض جهارةً في سياق المقال أنه كبُر كارهاً كلّ من هم ليسوا من أبناء جلدته، بل - لمزيدٍ من الوضوح - نشأ على كره الفلسطينيين، وشعر يوماً برضى أمام ما حلّ بفلسطينيي مخيم صبرا وشاتيلا من مجزرةٍ وتنكيل، فكان ذلك في رأيه «قصاصاً عادلاً» رداً على اغتيال بشير الجميّل. إنْ كان هذا رأي معوّض المراهق أو الشاب غير الناضج بعد، الذي ربما غذّته نزعةٌ طائفيةٌ لا يسهل تخطّيها، أو أخبارٌ مضلِّلةٌ وردَته بالتواتر، فما تبرير أن يرى اليوم، وقد بلغ نضجاً ثقافياً وفكرياً ولم تبخل عليه دقة انتشار الصور والفيديوهات البيّنة وسرعتها كشعاع الشمس، في «مليشيات حماس» رمزاً لـ «قوى الظلام المجنون». فضلاً عن «فظائع أعمالها من خطفٍ وتدميرٍ يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنه»، بحسب كلماته، فإنّ الحركة «تغذي نبتة الكراهية تجاه السامية» على نحوٍ سيغدو معه مقبل الأيام «خوفاً ورعباً ونفياً وشتاتاً، بل مقبرةً، لكلّ يهودي».
إن الرسالة الأخيرة لعمل معوّض المسرحي «الكل عصافير» (Tous des oiseaux)، كدعوةٍ للتعايش باسم الحبّ والسّلام والإنسانيّة، هي محض نظرةٍ رومانسيةٍ ساذجةٍ لا تعرف من السلام سوى شعار الحمامة البيضاء، وتسقط أمام مجازر الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يربو على ستة أشهر في مستشفيات قطاع غزة وأحيائه السكنية ومدارسه، وأهاليه العزّل في طوابير الخبز والطحين، وطواقمه الطبيّة التي تحميها القوانين والشرعات للمنظمات العالمية التي يزهو المجتمع الدولي بمعاييرها ونزاهتها، ولا تستحقّ الإتيان على تسميتها في هذه السطور. لكنْ كان حريّاً بوجدي معوض المتحدّر من بلدٍ كان شاهداً على قضيةٍ نكاد تكون أسمى القضايا وأكثرها حقّاً وصوابيّة، أن يُسخّر ما امتلكه من عناصر قوةٍ في نصوصه لغةً وحبكةً وأداءً ومؤثراتٍ وإخراجاً، تُرجمت قبولاً لدى جمهوره ورواد مسرحه، أن ينحّي الحياد والمصالح والامتيازات جانباً مقابل قضيةٍ أَسودُها وأبيضُها بيّنان من دون لبس، وما مِن مكان للرمادي فيها، وألا يألو جهداً ليقوم عبر منبره المؤثّر بإيصال ما لا يوصله الإعلام الانتقائي الغربي عموماً والفرنسي خصوصاً المحكوم من قبل اللوبي الصهيوني، فما بالك إن كان نصّه «الكل عصافير» مُدرجاً كنصٍّ أدبيٍّ في المناهج الفرنسيّة!
في حين لا تحقّ محاكمة شخصٍ على ما لم يفعل ـــــ وإن كان العتب، بل اللوم، حقاً على المثقفين المؤثرين ــــ ولا محاكمته على رأيه أو مصادرة حقه في التعبير عنه مهما كان فاقعاً ومجافياً للإنسانيّة، فإنّ القانون اللبنانيّ يجرّم التواصل والتعامل مع كيان الاحتلال ضمن أيّ سياق وتحت أيّ ظرف، وهو أمرٌ مُثبتٌ وواقعٌ في حال وجدي معوّض، أقلّهُ في تمويل العمل المسرحي «الكل عصافير» (Tous des oiseaux) الذي يحمل إمضاءه، وهو سقطةٌ متعمّدةٌ لا تبررها حُجّة، ولا يمكن أن تُترك لتمرّ عابرةً، بل الحريُّ بالمعنيين أن يجعلوا من أصحابها عبرةً، فمهما علا شأنهم وشأن أعمالهم، لن يكونوا في محكمة التاريخ سوى عابرين، في كلامٍ (غير) عابر، ولهؤلاء نستعير ما قاله محمود درويش: «أيها المارون بين الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرِفوا! آن أن تنصرِفوا!».