تنطوي «زراوند» (دار الناشر ــ رام الله ـ 2020) المجموعة الأخيرة للشاعر الفلسطيني زكريا محمّد على خصائص «شكليّة» تجعلها مختلفة عمّا هو سائدٌ، «الآن»، في كتابة «القصيدة» في العالم العربيّ. فالملمح الأساسيّ الأوّل، على صعيد الصّنْعة «البرّانيّة» (و«البرّانيُّ»، هُنَا، ليس مجرّدَ «كسوةٍ»، وإنّما هُوَ «انعكاسٌ» لصورة «الجوّانيِّ»، بكلّ تجليّات وجوده، و«تعدّد» أحواله ومقاماته) هو غياب «التَّسْمِية» أوِ «العَنْوَنَة»؛ فجميع قصائد الكتاب بلا «أسماءٍ» أو «عناوينَ»، وليس ثمّة حتّى فهرست يشي بمحتويات الكتاب، بل يجد القارئ نفسه في مواجهة القصائد، واحدة تلو أخرى، منذ الصفحة الأولى وحتّى آخر الديوان. تتابع القصائد، كمتواليةِ أنفاسٍ، غُفْلًا مِن كلّ شيءٍ إلّا من تاريخ كتابتها، المرقون في طرف الركن الأيسر للصفحة. التاريخ، هُنَا، هو «اسمُ» القصيدة، أو «عنوانها» الحقّ؛ تاريخ أنفاس الشاعر، وعذاباته، في لحظة التجلّي؛ لحظة «المخاض» العسير. كأنّ الشاعر يريد أن يقول: لن أسمّي قصائدي؛ فالتّسميةُ «موتٌ»: فكلُّ «مُسمَّى» (المعلوم المُعيَّن) لا بُدّ له، في آخر المطاف، مِن «مِيْتَةٍ» مفترضَة (مجازيّة كانت أم حقيقيّة). لذا، أيّها القرّاء، سأترك لكم تواريخي؛ فقصائدي تواريخي، والتّاريخُ باقٍ، حيٌّ لا يموت!بَيْدَ أنّه لا يُقدّم تواريخه، هذه، وفق تسلسل زمنيّ (كرونولوجيّ)؛ زمن «الحَدَث»، الحدث المتحقّق وفق شرط وجوده (فالقصيدة الأولى، على سبيل المثال، كُتبت في سنة 2018، والثانية في عام 2019، والأخيرة وما قبلها في سنة 2013) بل وفق تسلسل قد يبدو، لأوّل وهلة، عشوائيّاً، ولكنه مقصود: خلطُ الفواصل الزمنيّة (فواصل لحظة الكتابة)، بعضها ببعض، حتى يغدو الزّمن (دورة حياة هذه التواريخ/ القصائد) زمناً دائرياً، لا أوّل له ولا آخر، يعيش في «نَفْسه» إلى الأبد؛ فالقصيدة، عند زكريا محمّد، في مجموعته الثّامنة، هذه، كونٌ دائريّ— فَـ «الكونُ دائرةٌ»، كما يقول في القصيدة الأولى، و«كلُّ شيء/ يسافر من نقطة على محيط الدائرة ثمّ يعود إليها».
ولكنّه، في المرّة الوحيدة، التي يختار فيها «التّسميةَ»، فإنّه يُسمّي الكُلَّ الجامعَ؛ يُسمّي «الجسمَ»، دونَ أعضائه. فالعنوان «الوحيد» الذي يتركه لنا الشّاعر، هُنَا، هو «زراوند»: العشبة المعمّرة التي كأنّها الشعر (بطبيعته المتحوّلة) في عين ذاته: فهي معمّرة، ولها أكثر من خمسمئة نوع، وتُعرف بأكثر من اسم ذي دلالة «شعريّة» بالغة (غليون الهولنديّ، عنق الجمَل، فقّوس الغول، قثّاء الحيّة) تنمو، على أكمل وجه، في التربة الطينيّة والرمليّة (أليستْ تربة الشِّعر، في أصلها، تربة طينيّة، لزجة، ورمليّة متحرّكة؟). ولا يرد هذا الاسم، في المجموعة كلّها، إلّا على الغلاف. فالزراوند، هنا، هو الاسم الجامع؛ والديوان، إذاً، هو «كتاب الزراوند»: كتاب الولادة! فالكلمة، في أصلها اللّاتيني (أرسطولوخيا)، مشتقّة من «أرسطوس»؛ وتعني «الفاضل والأمثل» (ومن هنا جاء اسم الفيلسوف الأكبر أرسطو)، و«لوخيا»، وتعني «الولادة». كأنّ «الولادة»، هنا، في هذه المجموعة، هي «الولادة المُثلَى»؛ ولادةٌ على «النّقيض» التامّ من الطقوس التي كانت تمارسها النسوة، في الأزمنة الغابرة، حين كُنّ يخلطن «الزراوند» بلحم ثور، إن رغبن في إنجاب ذكر؛ ولادةٌ يلجأ زكريا محمّد، من أجل تحقّقها الأمثل، وفق طقوسه الشعريّة الخاصّة، بخلط «زراونده» بلحمه هُوَ، كي يلد الأنثى: أنثاه هُوَ: القصيدة!
والملمح الشكلي الأساسيّ الآخر، في هذه المجموعة، هو غياب «التشطير»، بخلاف «السائد» في كتابة «القصيدة» في العالم العربيّ. فجُمل القصيدة، عنده، تتدفّق وراء بعضها، مقيمة في كونها الدائريّ. ولأنّها تقيم في محيط الدّائرة، فهي لا تسعى إلى تربيع هذه الدائرة (على شاكلة قصيدة النثر التقليديّة، في الشعريّة الغربيّة) وإنّما تَتْبَعُ مسارَ الأنفاس، حتّى إنّ الشاعر يلجأ في خواتيم القصائد إلى كسر نمطيّة الكُتلة النثريّة، بتشطير/ تشظية الجُملة إلى سطرٍ شعريّ أو سطرَيْن. وهذا الكسر لنمطيّة الكتلة، بتنا نشهده، في الآونة الأخيرة، في الشعريّات التجريبيّة الغربيّة، المعنيّة بكتابة القصيدة بالنثر، كنوع من كسر حدّة الألفة البصريّة لدى القارئ المعتاد على كتلة النثر. إنّ هذه «التجريبيّة»، التي يمارسها زكريا محمّد، في كتابة القصيدة، سواء في ديوانه الجديد هذا، أو في مجموعتَيْه السّابقتَيْن، «كشتبان» (2014) و«علندى» (2016)، تُعَدّ إضافة نوعيّة (تُحسَب له) لـ «نوع» القصيدة التي تُكتب الآن في العالم العربيّ.
يفتتح زكريا محمّد «زروانده» بفقرة تكاد تكون «عتبة» الولوج إلى عالمه الشعريّ: «فجأة ردّ لي الموت ما أخذه مني. وقفتْ عربته أمام/ بيتي، وأنزلت كل شيء: أحبّتي الذين اختطفهم مني/ أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة». يحضر الموت، في هذه الافتتاحيّة، على عكس صورته المتجسّدة في القصيدة الشهيرة، «العربة»، التي كتبتها الشاعرة الأميركية العظيمة إيملي ديكنسن (1830- 1886)؛ فالموت، في كلتا القصيدتَيْن، يحضر في عربته، ولكنّه لا يأتي ليأخذ الشاعر إلى الحياة الآخرة— كما هي الحال عند ديكنسن— وإنّما ليعيد إلى الشاعر، من «الحياة الآخرة»، كلَّ شيء أخذه منه. هذه الإعادة هي التي تُعيد الحياة (أو الأمل بتنّورته القصيرة) إلى نقطة البَدْء: نقطة الخلق الأولى؛ فبعد أن يُكمل الموتُ «دورته» المفترضة، يُعيدُ الأشياءَ إلى أصلها، في «الكون الدائريّ»: إلى محيط الدائرة؛ «فالموتُ ذاتُه حصانٌ يجري على هذا المحيط. يحملُ حمله ثم يفسخه. يأخذ القتيل ثمّ يردّهُ». يجري الموت في هذا «المحيط» الذي لا يكفّ من الدوران على نَفْسه، فلا نهايةَ للزمن، وإنّما هو تعاقُب الموت والحياة في تقاسُم «أدوار» الولادة، بين الإثبات والمَحْو، فَـ «الموتُ حرّاثٌ. يصيحُ ببغلته: دي . . . دي، ويشقُّ ثلمه الطويل. ثلمه لا يتوقّف أبداً، وبغلته لا ترتدُّ».
إنّ ثيمة الموت (في تعاقب أدوارها مع الحياة) أساسيّة في هذا الدّيوان؛ فهو «كسّار النوافذ»، وهو «الطريق التي يمشي فيها الشاعر ثمّ يعود منها... والنّصُّ غير منقوطٍ». ولكنّها الطريق التي سوف تفضي بالشّاعر إلى «بابٍ آخر للحياة لا يعرفُ عنه الموت، ولا يستطيع أن يأتي منه»، ذلك الباب الذي سوف يدخل الشاعر، «بعدَ أن تضرب نسرينُ بمندفها الموتَ في داخله، ويضربُ طائر الطنّان بجناحيه ماضي (الشّاعر) ومستقبله»، إلى حياةٍ لن يأتي إليها الموتُ «قبل أن يتفتّح (لَهُ) سرّ زهرة الكتّان. وقبل أن يتقطّع بين يديه وتر الكمان».
ولأنّ الموت، بعربته وبغلته، حاضرٌ بقوّة في «محيط الدائرة»، التي تتعاقب فيها فصول الحياة، فإنّ الشّاعر يُمجّد الطبيعةَ الأمّ، بمعجم زاخر بأسماء الحيوانات والنباتات، ولكنّ هذا التّمجيد لا يحتفي بالطبيعة، في حدّ ذاتها، بقدر ما يحتفي بقوّتها التدميريّة: الموت!
زكريا محمّد صانع ماهر، ينحت من بسيط الكلام جواهر فريدة. جواهر مطمورة، كبيوض الشّنار، «في المسافة القصيرة بين الزّهرة والحجر». شاعر يكتب «بأقلام مُدوّرة»، و«حصاة الموت تحت لسانه». لا يصف لأنّ «الوصف هو الظلّ»، ولا يحكي لأنّ «السكوت هو الأصل».

* شاعر ومترجم فلسطيني