«أعبر قبيل الفجر طريق المقبرة كي أسمع أغاني الموتى، وأغنّيها معهم. أجرّب أن أكون ولو لساعة واحدة عضواً في جوقتهم الكبيرة: دو ري مي فا صول لا سي. دو ري مي فا...هم يعرفون أنني أرفض موتهم. لكنهم يعرفون كذلك أنني أرفض حمل رسائلهم إلى ذويهم. لا أستطيع حمل الرسائل، لا أستطيع. «كل شيء إلا الرسائل»، أقول لهم. لذا فهم ينظرون إليّ عاتبين. عليهم أن يفهموا أن الموت هو انقطاع البريد عن الوصول، وأنه حتى عنيد مثلي لا يستطيع خرق هذا القانون.أستطيع أن أعبر الحد، أن أكسر النجمة بحجري، بل وحتى أن أكون لساعة كاملة مغنياً في الجوقة، لكن إيصال البريد فوق طاقتي. وهذا ما يترك الموتى محبطين تتساقط رسائلهم من أيديهم مثل أوراق التين اليابسة. أما أنا فأمشي في طريقي عائداً إلى البيت بعد أن غنّيتُ. وأما الفجر فيمشي هو الآخر ورائي. يمشي في البدء حذراً مثل غزال رنة، يتلفّت يميناً ويساراً. ثم يتجرأ ويتابع خطاه، مطلقاً البخار والنهار معاً من منخريه. النهار يطلع من منخري غزال الرنّة. أما أغنية السلم الموسيقي فتغور في أعماق الأرض خلفي».


كان زكريا محمد (1951-2023) مثل تلك الكائنات اللطيفة التي يظللها الغمام من المباركين والأولياء وأبطال الأساطير ولا سيما العربية التي شغف بها وحفر في الكثير من خفاياها ورموزها في مؤلفات أغنت المكتبة التراثية العربية مثل «نخلة طيء: كشف لغز الفلسطينيين القدماء» (2003)، و«عبادة إيزيس وأوزيريس في الجاهلية» (2009)، و«كتاب الحمس والطلس والحلة» (2012) و«ذات النحيين» (2010) وغيرها من الأبحاث الميثولوجية المثيرة للإعجاب والجدل معاً، بل كان في مقدّمة تلك الكائنات التي يرتفع معها الشعر فوق الكلمات ويتجاوز تخوم اللغة لينساب داخل الكون كلّه. منذ مجموعاته الشعرية الأولى مثل «قصائد أخيرة» (1982) مروراً بــ «أشغال يدوية» (1990) و«ضربة شمس» (2003) و«أحجار البهت» (2008) وليس انتهاءً بالمجموعات الأخيرة مثل «تمرة الغراب» (2022) و «زراوند» (2020)، أثبت زكريا محمد قدرة الشعر على تجاوز ذاته، وكشف عن إمكاناته في توسيع أي حدّ يحيط به ويدفعه إلى مداه الأقصى في اللغة: نرى ونسمع عبر كلمات تلك اللغة وفي المسافة بين كلماتها، بل هي أشبه بما يتكلم عنه بيكيت عن حفر ثقوب في اللغة من أجل رؤية أو سماع ما هو كامن في الخلف: «السهل الموحش الذي يدعى الليل/ والأيدي المقرورة تريد حطباً كي تتدفأ/ وأنا الذي أتبدى كشجرة/ ملزم بأن أجعل أغصاني طعاماً للنيران/ هذا ما يسمونه الذكريات»، لينطبق على صاحب «الجواد يجتاز إسكدار» ما يقوله الفيلسوف الفرنسي الراحل جيل دولوز عن الشاعر: «إنه بصير، إنه سميع، إذ من لا يُحسن الرؤية لا يحسن القول. إنه رسام، إنه موسيقار، وحدّه مقدود من هذه الرؤى والسمّاعات غير اللغوية لكنّ اللغة وحدها هي التي تجعلها ممكنة». يمكن القول إن شعر زكريا محمد بأكمله كان محاولة للتحرر من هذا الحد ليشكل الشعر فضاء زمانياً ومكانياً يعاد اختراعه باستمرار. كانت مجموعة «كشتبان» (2014) نقطة مفصلية في مسيرة زكريا محمد الشعرية، إذ كانت مختبراً فعلياً للتجريب الشعري وتضارب ذراتها ومكوّناتها بعضها ببعض لترتفع بالنص إلى النص المطلق، أو إلى السديم الكامن خلف اللغة او عند تخومها: «منذ كشتبان حدث تحوّل شامل في شعري، تغيّر خلاله طابع قصيدتي بشدّة. حتى إنني لم أعد أرغب في استعمال مصطلح قصيدة لوصف ما أكتب منذ «كشتبان»، مفضّلاً عليه مصطلح مقطع أو مقطوعة. فالبناء تغيّر، والإيقاع تغيّر والقاموس اختلف واتّسع. كانت قصيدتي قبل تلك المجموعة تصعد إلى نهايتها بوضوح وانتظام، وبلا تلعثم. ثم أخذت تشتّت نفسها، ويُضاربُ بعضها على بعض، وينقضه. ومن خلال هذه المضاربة، تفتح المقطوعة الباب لشوق غامض وحنين مُبهم، يطرح القارئ أو السامع في سديم يشبه سديم ما قبل خلق السماوات والأرض». الميزة الثانية في لغة زكريا محمد الشعرية هي أقرب لما يقوله بروست في كتابه «ضد سانت بوف»: «الكتب الجميلة مكتوبة في ضرب من لسان أجنبي»: إنها أقرب إلى قصيدة مترجمة من لغة تؤدي كل ما يقوم به الأدب الجيد بحسب بروست، شعر ينفلت كقمر مستقلّ عن المجرة التي حدّدها العملاق محمود درويش للقصيدة الفلسطينية، إذ إن شعر زكريا محمد «يرسم في اللسان نوعاً من اللسان الأجنبي الذي ليس هو لساناً آخر، ولا لهجة مستعادة، وإنما صيرورة أخرى للّغة تصغير لهذا اللسان الأكبر، هذيان يجرفه، خط عجيب ينفلت من النظام نفسه»، والقول لدولوز نفسه. الشاعر والباحث الذي ولد في بلدة «الزاوية» قرب نابلس عام 1950 درس الأدب العربي في جامعة بغداد وتخرّج فيها عام 1975، ثم انتقل إلى بيروت، ليعمل في الصحافة الثقافيّة، ويتنقّل بين بيروت وقبرص وتونس وعمّان، قبل أن يعود إلى رام الله في عام 1994 عقب اتفاقية أوسلو ليتولى منصب نائب تحرير صحيفة «الكرمل» التي ظل الشاعر محمود درويش رئيساً لتحريرها منذ عودة صدورها عام 1996. كما نال جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع عام 2020.
آمن بأحقية الكفاح المسلّح لاستعادة كامل التراب الفلسطيني


بات زكريا محمد يهجس بالموت بعد مرض أخفاه عن محبيه ومتابعيه: «الموت قبيلة كبيرة. خيلها كثيرة ترعى في السهب، والمطر يتساقط على أعرافها. أما الحياة فقبيلة فقيرة: قبضة تمر، وقبضة ريح». بدأت نصوصه تتطعّم بالمرارة ولا سيما بعد اعتقاله مرات عديدة من قبل «أجهزة أمن السلطة» في السنوات الماضية، إذ إن الشاعر المؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وأحقية الكفاح المسلّح لاستعادة كامل التراب الفلسطيني، لم يكن ليهادن سلطة تحولت برأيه إلى «نظام قمعي يعمل لمصلحة الاحتلال». الشاعر الشجاع المعترض على أوسلو لم يتوانَ عن تقديم العون للكثير من الكتاب الفلسطينيين الشباب ممن وجدت نصوصهم طريقها إلى النشر في مجلة «فلسطين الشباب» التي تولى تحريرها بعد استقالته من «الكرمل»، كما كان مثالاً للمثقف الملتزم والمشتبك الذي يحترمه خصومه وكذلك أصدقاؤه. روّضت لغة زكريا محمد الموت حتى خلناه أليفاً لا يؤذي: «لا أريد أن أموت قبل أن يمتلئ رأسي بأسماء الزهور. سآخذها كلها معي. وإن سهوت عن واحدة فسأعود أدراجي، وآخذها. سأجعل الموت مهرجان زهور وعطور». أحد نصوصه الذي يمتزج به الشعر بالموت، يجعلنا نفهم كيف يدفع هذا الشاعر باللغة إلى نقطة غنائها المختلف أو صرختها، أو سديمها ما قبل خلق السماوات والأرض: «منحني الله وقتاً مستقطعاً. كان يريد أن يقبضني، غير أنه قرر أن يمنحني سنوات قليلة أُخرى أُدبّر فيها أمري. وأنا كنت ممتناً له. فقد كنت راغباً في أن أضرب بسهمي بين الأسهم. وقد ضربت، لكنّ سهمي خاب، وكانت النتيجة صفراً. وهكذا هي الحياة: عند الحساب الأخير يكون الناتج صفراً تقريباً. أضع الصفر المستدير مثل كرة أمامي، وأقول محاولاً خداع نفسي: اسمعي يا نفس، هذا ليس صفراً. هذا حجر الفلاسفة. هذا نشيد الأناشيد. فاشكري الله على نعمه. اشكري له أنه أعطاك الوقت المستقطع. منحني الله وقتاً مستقطعاً. وقد فهمت بشكل ما أنه أعطاني الوقت المستقطع من أجل شيء ما. لكنني لم أكن متأكداً من هذا الشيء».
لا يلبث محمد أن يعطينا الرؤية المضادة للموت، إنه الشعر وحده الذي كان زكريا أحد ألطف كائناته: «وفي لحظة قلت في نفسي: ربما يكون هو الشعر، ربما يكون هو الشعر. ربما أراد الله مني مجموعة من خمسين مقطوعة كي تكون كتاب أغان للأطفال، ومن أجل هذا رميت نفسي مستقتلاً على الشعر. لكن لِم اختارني أنا كي يعطيني الوقت المستقطع؟ لِم اختار أن يخرق قانونه من أجلي؟ أكنت أنا فرس رهانه؟ ولم يكن لديّ أي دليل على هذا. مع ذلك فقد تصرفت كأنني فرس الله. رمحت كأنني فرسه الكميت، وصفّرت في الهواء كأنني سهمه المقذوف. واليوم اقترب الوقت المستقطع من نهايته: النار تأكل أشجار التنّوب، وأنا أُمسك بالصفر الذي حصلت عليه، وأُغني».