لهوميروس، في أوديسته، مقولة مفتاحية حول علاقة الشعر بالآلام: «تحوك الآلهةُ فجائعَ للبشر كي يكونَ للأجيال القادمة ما تُنْشِدُهُ». مقولة تَتَصَادَى مع تعبير نَاظِمْ حِكْمَتْ: «وَهَلْ مِنْ شَجَنٍ لَمْ نُنْشِدْهُ بَعْدُ؟». وبذلك، تتواشج، خارجَ إطارَيْ الزمان والمكان، العلاقة بين المأساوي والشعري والغنائي. وفجيعة الزلازل التي هزت سوريا وتركيا وجوارهما مناسبة للبحث في مدوَّنات الشعر العربي (والشرقي) الحديث والمعاصر عن هذه اللَّحظات الإنشاديَّة التي تجاوز فيها الشعراء توثيق لحظات الآلام إلى التعبير عن آمال التعاضد بين البشر، في ما يتجاوز الحدود التي ترسمها بقسوة الجنسيات والأعراق والأديان والجغرافيات المنغلِقة المقيتة؛ على العكس تماماً مما يجري حالياً من نفاق غربي وتباكٍ تمساحي وحصار جائر على رَحِمِنا الكبرى: سوريا. يكفي أيَّ متتبع عادي أن يلحظَه لو تتبَّع على النت في أي لحظة، خلال هذه الأيام، مقارنةً لحركة الطيران المدني الإسعافي بين تركيا وسوريا.من جهة أخرى، إضافةً إلى الحمولة الانفعالية والتضامنية للقصائد أدناه، هي أيضاً فرصة للشعراء لطرح تساؤلات فلسفية ولاهوتية حول مصدر الخير والشر والإرادة والأفعال الإلهية، متراوحةً بين تقديم جواب علمي يربط الزلازل بظواهر وتفسيرات جيولوجية محضة فحسب، جواب يضع العالمَ وجريان عناصره بمعزلٍ عن «تأثيم» أو «مباركة قوة إلهية» عليا لأفعال البشر؛ وتقديم جواب غيبي يجعل من الزلازل — وباقي الكوارث الطبيعية — «عقاباً إلهياً للبشر»؛ بل ثمة أيضاً شعراء جعلوا هذه الفجائع ثيمة من ثيمات الأدب القيامي. وفي نهاية المطاف، بعيداً عن كل هذه التفصيلات والفروقات والرؤى المتناحرةِ، تعلو قيم الجمال والإنسانيَّة فوق كل شيء، ومن خلالها خلَّد الشعراء لحظاتٍ أليمة من حيوات شعوبهم وإخوتهم في الإنسانيَّة.

1- عواء مصحح اللغة

عبد الرحمن مقلد *
تَمُرُّ زلازلُ وبراكينُ
وأنا أعْوِي
كي يسمعَني من يتسابقُ نحوَ الموت
وكي ينتبهوا قبلَ سقوطِ البيت
أرجو أن يتركَني
القابعُ فوقي
ولا ينتبه لأيّ من أخطائي
وكأني قاتلُ من قتلُوه
ولصُّ المَالِ العَامِ
- إذا ضبطُوه -
أقاموا لي المَقْصَلةَ
وقالوا
كيفَ..
لماذا لا تنتبهُ..
وكيفَ لهذا الشاعرِ أن ينتبهَ
لخَطْوِ يديه
وتلك دماءُ الموتى تطغى فوقَ الشاشةِ
تملأ مجرى الأحرفِ
تحملُ من بصماتِ القتلةِ
ما لا يمحُوه دليلُ
لكني كنتُ أرمّمُ تلك الهُوَّةَ بين القاتلِ والمقتولِ
كأني حفارُ قبورٍ
كلُّ الجُثثِ لديه سواءُ
حفارُ قبورٍ!!
ماذا يفعلُ يا ابنتيَ
الشاعرُ بستانيُّ اللغةِ
سوى أن يرثي المَوْتَى
أو يتريثَ بضعَ دقائقَ كي تحتضنَ الأمُّ بَنِيها
أو ينفجرَ الأَبُّ ويغلقُ عينَ الولدِ
وأن يقتبسَ الغارقُ آخرَ نفسِ
ويمرَ قطارُ المنتحبينَ
ليس عليه سوى أن يضعَ زهوراً للدبابة
كي تقتاتَ
ولا تضطرُ لصيدِ مزيدٍ من صُحْبَتِه
ويَزَيِنُ وجوهَ نساءٍ منهوكات العِرضِ
ويضعُ فواصلَ كبرى بين القاتلِ والمقتولِ
*القاهرة

2- تحت الأنقاض
تذبل الوردة
في يده.
(محيي الدين محجوب، طرابلس/ليبيا)

3- كل الضحايا إخوتي
قلبي مليء بالموتى
ولا أعرف أين أدفنهم.
(وديع سعادة، سيدني/لبنان)

4- من كثرة مشاهد الأنقاض
تخاف أن تطبق جفنيك
فيصرخ أحد ما طالباً النجدة
من تحتهما
(لطيفة أودوهو، الفقيه بنصالح/المغرب)

5- قاسية هي الأوجاع
أيتها الأرض المتكسرة
ودامية جداً
فجيعتك
(مجيدة البالي، فلوريدا/المغرب)

6- فولتير: قصيدة عن كارثة لشبونة، 1756 (مقطع)
جانب الفلاسفة الصواب حين يزعمون أن «كل شيء على ما يرام»،
اِهرعوا لتتأملوا: هذه الأطلال الرهيبة،
والأنقاض والخرق والرماد الحزين،
وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم (...)
هل ستقولون، عند رؤية هذا الركام من الضحايا:
«إن الله ينتقم، وأن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم»؟
أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال
الملتصقة أفواههم بأثداء أمهاتهم المسحوقة والدامية؟
هل بلشبونة، التي لم يبق لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟
لشبونة منكوبة، وفي باريس تُقام حفلات الرقص.
(ترجمة: نجيب مبارِك).

7- الأرض تعرف هوية الفاعل
كذلك الدمية التي
تحت الأنقاض.
(محمد الأمين الكرخي، لاهاي/العراق).

8- شذرات من العرفان الفارسي
1. وما الجهات الست إلا سفينة بلا شراع لحظة الزلزال. (ميرزا حاجب البروجردي).
2. الأقرب لسجيّة الجبل زلزلة ذات طعنة عميقة. (بيدل الدهلوي).
3. ينبض الكون بالعمران والأرض حبلى بالزلازل. (بيدل الدهلوي).
4. من زلزلة إلى أخرى قضيت العمر، ولم ينهدم لمرة واحدة بيت السلاسل. (كليم الكاشاني).
5. بيت بلا حبيب وزلزلة في الطريق. (عبد الرحمن الجامي).
6. لا يأبه لألف زلزال من نصب خيمة في الصحراء. (سعدي الشيرازي).
7. وحدهم أهل الصحراء في مأمن من الزلازل. (البلخي الرومي).
8. لا شفاء من فجيعة الزلزال حتى إن ارتشفت الخمر إلى يوم الدين. (سوزني السمرقندي).
9. بحجارة الزلزال يرشقنا العدم. (الأزرقي الهروي).
(ترجمة: محمد الأمين الكرخي).
سركون بولص:
الحياة على حافة زلزال

أعيشُ على حافّة شِقّ الزلازل المسمّى:
أخدود القدّيس أندرياس..
يا لهُ من قدّيس!
يتخاطَفُ، بين آونةٍ وأخرى
تحتَ أساساتِ بيتي
فيرتَجُّ لهُ
البيتُ.
بيتي،
عبر خلفيّات الحديقة
صغيرٌ، على وقْعِ تلّة الانحدارات
نحو البحر.
ذاتَ يوم سأقولُ لأمواجه:
سوف أطفو فيكَ على قُفَّتي أيها المحيط الهادي
وبضعة من كتُبي المفضّلة
مَحمولةٌ على ظهري
عائداً من جديد إلى قصة الطوفان!
أنا من يَشقى
ليوحِّدَ الشقّين، في أحلامه
بين الزلازلِ والسكينة.
بعمودي الفقَريّ إن لزمَ الأمور، أُسندُ
انزياحةَ التشَقّق الأرضيّ الذي ستشاؤهُ الطبيعة.
أو تتهجّاهُ ألواح المصير.
كنتُ أمشي، في الأماسي، وبيتي
يتكدّر من الأنباء
والتوقُّعات
والتوجّسات والنذائر
تكاد حجارتهُ أن تشيخ في وجه
الانهيارات المقبلة.
كنتُ أمشي لأنظرَ إلى
المشهد التالي، وأشهدَ للغرابة.
عندما جئتُ إلى هذا المكان
كنتُ أحلم بأنّ كلّ شيء في انتظاري:
الطبيعة بكلّ بهائها، رفوفٌ عَلتْها كتُبي.
أسماءُ حيّةٌ تجتاحني. ذلك المعنى
الذي سأقولهُ، أنا
وحدي.
هكذا فكّرت، أنا البريء
الأكثرُ خضرةً من أعشاب والت ويتمان
في حديقة السذاجة.
كان ذلك منذُ وقتٍ سحيق
مَرّ في رمشة عين. واليومَ أعرفُ
أنني حقاً أعيشُ على
حافّةِ زلزال.
(العراق)