ظهر التاريخ الشفهي رسمياً كفرع أكاديمي قبل عقود، ولكن تاريخ ميلاده الحقيقي ليس معلوماً على وجه الدقة، فهو من أقدم أشكال توثيق التاريخ، إذ يعود إلى الزمن الذي كانت فيه رواية القصص هي الشكل الوحيد لتأريخ الأحداث، وهو في الوقت ذاته من أكثر الوسائل حداثةً لتوثيق التاريخ عبر مواكبته ما أفرزته التكنولوجيا من أدوات والاستفادة منها على أكمل وجه. ويعدّ التاريخ الشفهي من المصادر المهمَّة لكل أمة تهتمّ بحفظ تاريخها وتعمل على تعزيز وعي أفرادها ومضاعفة قدراتها في مواجهة أعدائها، حيث يمنع جمعُه وحفظُ وتفسيرُ روايات الأفراد المشاركين في أحداث الماضي طمسَ الهويةِ الجمعيّة للشعوب وتزويرَ التاريخ بعد سرقة الجغرافيا.
تقول ضحى شمس في تقديم كتاب تهاني نصار «حكايات ستي» الذي يُعدّ خطوة رائدة على طريق حفظ وتدوين التاريخ الشفهي الفلسطيني: «إن كان التاريخ، ذلك الذي في الكتاب الرسمي، يكتبه المنتصرون، فإن التاريخ الشفهي قد يكون ملجأ الحكاية المراد لها أن يطويها النسيان، هو التاريخ الذي ينتظر انتصار أصحابه ليصبح كتاباً رسمياً». من هنا، نفهم كيف أصبحت نكبة 1948 الحدث الأكثر توثيقاً واهتماماً من قبل المؤرّخين الشفهيين في العالم العربي.
وانطلاقاً من وعيها لأهمية التاريخ الشفهي ودوره في التمهيد للانتصارات المقبلة، وحفظاً للتجربة الرائدة والفريدة لشهداء المقاومة في التاريخ العربي المعاصر، وترسيخاً لهويتهم الفكرية، باشرت «جمعية إحياء التراث المقاوم ــ أحياء» بجمع وحفظ وتدوين وتحقيق وتوثيق ذاكرة شهداء المقاومة الإسلامية الشفهية والمدوّنة، وتراثهم الفكري والقيمي والثقافي، صوناً لتاريخهم وإنجازاتهم من التضييع والتحريف والتزوير.
وتنطلق الجمعية في عمليَّة جمع المعلومات التاريخية من مقابلات يتمّ تسجيلها صوتياً أو مرئياً مع أشخاص عاصروا شهداء المقاومة وعايشوهم عن قرب أو سمعوا عنهم، ثم التحقيق فيها لغرض دراسة الماضي من خلال الرواية المحفوظة في الذاكرة والمنقولة مشافهةً لإعادة إنتاج التاريخ الحقيقي للوطن.
وقد أسَّست الجمعيَّة لهذه الغاية «بنك معلومات» متكاملاً وغنيّاً ومتطوراً، وبنت أرشيفاً منظّماً ومكتبة متخصّصة، وهي تصدر بصورة دورية المؤلفات التأريخية، والسيَر الغيرية والذاتية، وتدعم الأبحاث العلمية والرسائل والأطروحات الجامعية ذات الصلة بموضوع عملها. وتقيم المعارض، وتنظّم المؤتمرات والندوات والورش التدريبية، وتقدّم خدمات المعلومات، وتسهم في إنتاج الأعمال الفنية والإعلامية التي تظهر الانجازات والقيم التي حفلت بها تجربة الشهادة المشرقة، معتمدة في ذلك كلّه على فريق عمل متخصّص، من أصحاب الطاقات العلمية والخبرات في المجتمع، ومستفيدة من التجارب المماثلة محلية وعالمية، ومن الوسائل والوسائط والتقنيات الحديثة، سيّما الفضاء الافتراضي، ملتزمة المعايير والضوابط المتوافقة مع التصوّر الإسلامي لحركة التاريخ وفلسفته.
أبرز إصدارات الجمعية في هذا المجال في السنوات الأخيرة كتاب «جواد موجٌ لا شاطئ له» للكاتبة نجوى رعد وهو عبارة عن مشاهد من سيرة الشهيد سمير مطوط، وللكاتبة أيضاً، «وأنا اخترتك» الذي يتضمَّن مشاهد من سيرة الشهيد أحمد شعيب. وعلى الطريقة ذاتها سجَّلت غيداء ماجد مشاهد من سيرة الشهيد الجامعي محمد حسين جوني في كتابها «منتصر».
أمَّا بتول دولاني وزهراء ريحان وسناء صفوان، فقد تشاركنَ في كتابهن «إبقَ معي» توثيق مشاهد من تجربة مجاهدي الإسعاف الحربي والساعات الحرجة التي مرّوا بها أثناء محاولتهم إنقاذ رفاقهم المقاومين الذين حوصروا أو وقعوا في كمائن أثناء قتالهم في مواجهة التنظيمات التكفيرية في سوريا، بينما وثَّقت غيداء ماجد في كتابها «قلبٌ هوى مرَّتين» سيرة الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي على لسان صديق عمره الشيخ الراحل محمد علي خاتون، مستعرضةً أبرز محطاته مذ كان طالباً للعلوم الدينية في النجف حتى الشهادة عام 1992. وتصدّت ملاك عباس في كتابها «طواف الليل» لتدوين سيرة أحد شهداء عدوان تموز 2006 راني بزي في سرد غني بالدراما ومكتوب بلغة مشوّقة تجمع بين الأسلوب الروائي والتاريخ الشفهي. وفي كتابها الآخر «درويش»، تفرَّغت لتقديم سيرة غيريّة للشهيد محمد حسن غدّار بنزعة روائيَّة تتناول مقتطفات وأحداث من حياة الشهيد.
الإيرانيَّة رقية كريمي استوحت بدورها قصص مجموعتها «التاسعة إلا ربعاً» من روايات شفهيَّة لذوي الشهداء ونقلتها بأسلوبها المفعم بالعاطفة، بينما اختارت ندى بنجك وصف كتابها «طائرٌ من فلسطين» بـ «إشراقات من سيرة الشهيد فادي الجزار»، وقدَّمت سلام مزرعاني في كتابها «مخرّب 5017» الذي ينتمي إلى أدب السجون رحلة الأسير علي حجازي من لحظة أسره أواخر الثمانينات اثر العملية الاستشهادية التي نفذها الشيخ أسعد برو وصولاً إلى الحرية مستعرضةً فنون التعذيب النفسي والجسدي الذي يمارَس في سجون الاحتلال استناداً إلى سرديات الأسير، واختارت هلا ضاهر الكتابة للناشئة، فكانت مجموعتها القصصيَّة «تحت ظلال الزيتون» التي تروي حكاية طفولة عدد من الشهداء الذين شغفتهم المقاومة مبكراً.
وكان أحدث الإصدارات كتاب «قالها محمود» للكاتب عبد القدّوس الأمين الذي يعدّ فاتحة سلسلة «زمن البدايات»، وفيه يلاحق الكاتب بلغة روائيَّة محترفة ومشوّقة سيرة الشهيد محمود ديب وما سجّله من ملاحم بطوليَّة مذهلة في فترة احتلال العدو الصهيوني للعاصمة بيروت والغربة التي عاشها المقاومون في تلك الفترة.
وإلى جانب سيَر الشهداء والأسرى المكتوبة بأسلوب أدبي والمنتمية غالباً إلى فنَّي الرواية والقصة القصيرة، كانت للجمعيَّة إصدارات أخرى منها: «الكلمات القصار» (منتخبات من كلام شيخ شهداء المقاومة الشيخ راغب حرب)، «الكلمات القصار» (منتخبات من كلام سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي)، و«موسوعة الآثار الكاملة لسيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي».