بهدوء أغلقت بابها، الشاعرة الهادئة التي لم تتخلّ يوماً عن نبرتها الخافتة، ذهبت بعيداً كأنها تزور البحر الذي تحب أن تتأمله كل صباح. تتأمل العالم عن بعد في وحدة لا تريد أن تسمع فيها الهتاف والضجيج كما كتبت مرة: «الوحدة أن ترى مسيرة من شرفتك/ وتحسب أنك من يقودها، الوحدة أن لا تسمع هتاف المتظاهرين. كتبت عناية جابر الشعر من إحساس أنّ شيئاً ما ينفلت منها بمعجم صغير ولغة تتفرد بالبساطة والعمق والهدوء. وكأنها تريد فقط من الشعر أن يُبقيها هادئة كما تقول في مجموعتها «عروض الحديقة»: «أكتب الشعر لأنه يُبقيني هادئة/ من دون قصائد أو سلال/ نعرف حقاً هول الأمر/ ونقترف ربما جرماً رهيباً».

وهكذا كان الشعر طريقها نحو استخراج معنى ما لتاريخها الشخصي الذي تملؤه الهشاشة وتعذّبه المشاعر التي لا تكفّ الشاعرة الرقيقة عن تأملها. كتبت أخيراً على صفحتها على فايسبوك عن رغبتها في كتابة تاريخها الشخصي شعرياً: سأكتب يوماً تاريخي الشخصي الذي شفي من هشاشته عبر التأمل الطويل في الجدران».
في «عروض الحديقة» (دار الساقي ـ 2011)، تكتب بفلسفة مرحة عن الحب. ندرك أنه شعر يبتعد عن الجدية ولكنه يقترب من الرقة التي تجعله موضوعاً وجودياً أكثر من كونه رومانسية مكرّرة. مثلاً، نعثر في نهاية هذه القصيدة على قلب كبير: «ترى كم من الرجال ودّعت/ عند كل المرافئ/ بهذا القلب/ ذاته». الأمر ذاته نصادفه في مجموعتها «جميع أسبابنا» (2006)، حيث الحميمية التي لا تريد سوى أن تشير إلى الحب كحالة، في جمل لا تكتمل أحياناً بل تبقى مفتوحة أمام الخيال. إنها طريقة عناية جابر في عدم قول كل شيء، بل باستحضار الصمت كجزء مهم من المشهد وفي تأمل اللغة اليومية العادية كأنها بحر واسع من الرقة لتقول: «لا أجيء في الموعد/ وأنسى أن أعتذر/ أمور كهذه تحصل».
استخراج معنى ما لتاريخها الشخصي الذي تملؤه الهشاشة وتعذّبه المشاعر


لغة عناية قادمة من التلقائية التي تتخلى عن الجهد والتكلّف، لأنها تؤمن أن الشعر آتٍ من تلك المنطقة الحساسة التي تريد من خلالها أن تطل على العالم أو تماماً كما تقول: «أن أنقر على الصمت كي أصنع صوتاً». هكذا نقرت عناية جسد شعرها الذائب في الصمت الذي ابتعد عن البلاغة والشكوى والعواطف والانفعالات، ليقول شيئاً ما عن ذاك التفكير الهادئ في تناقضات الحياة الهائلة. ها هي تقول أيضاً في خلاصة عن حياتها الشعرية الزاخمة: «لم تكن حياة باهرة/ كأنّي لم أفعل سوى لملمة كلمات/ من مكتبة /عامة». هكذا لملمت صاحبة «لا أخوات لي» حياتها في الكلمات كأنها تؤسس لنا مكتبتها الشخصية في حنان خاص يندر وجوده.
يأتي رحيلها مثل قبضة قاسية. تقول في قصيدة لها ربما تصف خراب العالم، لكنّ كلماتها تصف بدقة غيابها المفاجئ: «حنان مرتبك في مباذل/ نومنا/ ارتعاشات تطعن/ الليل/ قبضة قاسية كما لو/ نسيت أن أتنفّس». حقاً غادرت في لحظة مباغتة، لكنها لن تنسى يوماً أن بيروت التي كتبت عنها الكثير في كتابها القصصي «لا أحد يضيع في بيروت»، لن تضيع قصيدتها يوماً وسترسخ طويلاً في الذاكرة كقصيدة امرأة شاعرة بدأت منذ باكورتها في الكتابة بهدوء عن ذلك الصخب والعنف اللذين يهدران حولنا من دون أن تحاكيهما.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا