في الزمن الغامض صحياً عالمياً، والواضح السواد على كل الأصعدة محلياً، وجد الفنان توفيق فرّوخ فكرةً للإبقاء على حدّ أدنى من النشاط والإنتاج، عبر الولوج إلى الأرشيف عموماً، وتحديداً إلى «فايل» موسيقى الأفلام التي كان قد ألّفها وسجّلها لمجموعة من الأعمال السينمائية العربية (سبعة أفلام ووثائقي)، للمخرجين اللبنانيين جان كلود قدسي (فيلمان)، غسّان سلهب، ديما الجندي (وثائقي)، ميشال كمّون وخليل زعرور، بالإضافة إلى المخرج السوري محمّد ملص (فيلمان). فالحفلات غير متاحة بسهولة، والمهرجانات معلّقة بمعظمها، والسفر مرعب ومتعب، والجو العام غير صالح للعمل أصلاً. استغلال هذا الوضع الاستثنائي للقيام بمشروع لا يُرصَد وقت له ربّما في الأيام العادية، هو أفضل الممكن، أولاً، لمشاركة مادّة موسيقية كبيرة نسبياً من النوع الذي لا يأخذ حقّه إلّا عندما يصدر مستقلاً عن الصورة، وتثبيتها في لائحة الموسيقى التصويرية الخاصة بالسينما الشرق أوسطية، ثانياً، للحفاظ على صِلات بجمهور بات أقل انشغالاً لتكريس وقته للاستماع الهادئ إلى الموسيقى، ولو أن المزاج غير مناسب أحياناً لنشاط كهذا، رغم ضرورته عموماً، وبشكل خاص الآن.
توفيق فروخ (1958)، المؤلّف الموسيقي وعازف الساكسوفون العتيق، يعمل بوتيرة ثابتة، منذ انطلاقه بتجربة خاصة ومستقلّة قبل أكثر من ربع قرن.

توفيق فروخ يعمل بوتيرة ثابتة، منذ انطلاقه بتجربة خاصة ومستقلة قبل أكثر من ربع قرن

بعد سنوات من المشاركة في المشاريع الموسيقية الجادّة خلال الحرب اللبنانية، كعازف ساكسوفون يهوى الجاز والتجارب الموسيقية القريبة من هذا النمط، هاجر إلى فرنسا واستقر هناك لإتمام دراسته الموسيقية ثم الاستقرار النهائي. آخر زياراته إلى لبنان كانت قبل سنتَين تماماً، عندما قدّم مشروعاً مميّزاً عمّا اعتدنا عليه منه (أي حفلات جاز ضمن مهرجانات عامّة أو خاصّة بهذه الموسيقى)، إذ جَمَع في أمسيةٍ، رباعيّاً مكوَّناً من بيانو، كونترباص، درامز وساكسوفون، بالأوركسترا الفلهارمونية، في عملٍ كلاسيكي غربي تُعطَى فيه مساحة للارتجال الجازي المضبوط، أقلّه لناحية الشكل والأناقة، تحت صرامَة الأداء الأوركسترالي. منذ «علي في برودواي» (1994) حتى آخر ألبوم، «مدن لامرئية» (2017)، ترافقت تجربة توفيق فرّوخ الموسيقية الأساسية بأُخرى موازية، مستقلة تماماً، مختلفة غالباً، ومجهولة تقريباً، هي الموسيقى التصويرية أو تحديداً الأشرطة الصوتية الخاصة بأعمال سينمائية. بمعنى أنّ أقدم وأحدث هذه التجارب التي نسمعها في إصداره الجديد (متوافر عبر الستريمنيغ وسيصدر لاحقاً على CD مزدَوِج) تعود إلى 1994 (موسيقى «آن الأوان») و2017 (موسيقى «نور») على التوالي.
تراوح هذه الأشرطة، من حيث الحجم (نسبة حضور الموسيقى إلى مجمل الفيلم) وضخامة التركيبة الموسيقية، بين بضع دقائق وبتركيبة ثلاثية مختصرة في وثائقي «خادمات للبيع» (ديما الجندي) وأكثر من نصف ساعة وبتركيبة أوركسترالية ضخمة في الفيلم الملحمي «المهد» (محمد ملص). كذلك، تتوزّع مدّة كل مقطوعة موسيقية بين نصف دقيقة وأربع دقائق ونصف الدقيقة تقريباً. وهذا هو المألوف من هذه الناحية في هذا النمط الخاص الذي عمره من عمر السينما، منذ أن كانت لا تزال صامتة (عندما كانت ترافق أوركسترا حيّة عرض الفيلم). من جهة أخرى، صحيح أنّ الصورة والقصة توجّهان الموسيقى التصويرية نحو مزاج يعود عليها بالفائدة في إيصال فكرة أو نقل حالة أو تعزيز جوٍّ معيَّن، لكن بصمة فرّوخ التأليفية واضحة في بعض المحطات، وهذا متوقَّع. أما غير المتوقَّع، فهو ظهور هوية جديدة تماماً من شخصيته في محطات أخرى، بالأخص في فيلمَي «الأرض المجهولة» (غسان سهلب) و«المهد». في الأول، يبدو أن فرّوخ قد نجح في «إرضاء» المخرج، إذ أن النمط والتركيبة (كلاسيك/ رباعي وتريات بشكل أساسي) هما من النوع الذي يناسب هذا التيار السينمائي وكذلك ذائقة المخرج الموسيقية. وفي الثاني، ينجح المؤلّف في مساعدة القصة والصورة على إيصال ملامح بعض الأحداث التاريخية وطابعها الملحمي في فترة ما قبل الإسلام مباشرةً في الجزيرة العربية. وهذا كان جديداً، ليس بالنسبة إلى توفيق فروّخ فحسب، بل أيضاً بالنسبة إلى محمّد ملص ونمطه في العمل السينمائي. النَفَس الإضافي الذي نلحظه في بعض هذه المادّة الموسيقية هو التأثير الفرنسي الحديث نسبياً (في الأغنية وموسيقى الأفلام والتجارب الموسيقية الهجينة) على أسلوب توفيق فرّوخ في التأليف، بالأخص في فيلمَي «آن الأوان» (جان كلود قدسي) و«نور» (خليل زعرور)، علماً أنهما طرفا هذه المادة زمنياً (1994 — 2017). هذا موجود في أعماله الأخيرة، لكنه حاضر هنا أيضاً. يضاف، أخيراً، الاتكال على المؤثرات الصوتية والإلكترو-أكوتسيك والإلكترونيات (والسنتيسايزر) لخلق مادة تصويرية «متطرّفة»، يصعب استخراجها من الآلات التقليدية وحدها، بالأخص في فيلم «إنسان شريف» (قدسي).
النَفَس الذي نلحظه في بعض هذه المادّة الموسيقية هو التأثير الفرنسي الحديث نسبياً


يبقى المهم في هذا النمط الموسيقي نقطتان: الأولى، مدى «التصاق» الموسيقى بالصورة والقصة (تفصيل، مشهد كبير، تطوّر كبير، مزاج واضح وخاص، مشهد افتتاحي، مشهد ختامي، مشهد عاطفي، طرح عقدة وحلّها، الانتقال الجغرافي، ملامح شخصية أساسية في الفيلم، مكان مغلق أو مفتوح…) ومدى قدرتها على وضع المشاهِد في حالة أعمق (الحزن، الريبة، الخطر، الوجع، الهذيان، الكابوس، البراءة…) تجاه مجريات الفيلم وشخصياته. الثانية، مدى قدرة الموسيقى على خلق مفهومٍ ما لدى المشاهد من خلال جملة موسيقية (لايتموتيف) تولّد العودة إليها حالة مرادة معيّنة أو تكون مرتبطة بشخصية محدّدة، بالإضافة إلى قدرتها على التقاط «رائحة/ لون» الفيلم عموماً، وتحويلها إلى صوت عام أو جملة ما (موتيف) يُبنى كل الشريط، أو جزء كبير منه، عليها (الجانب البريء الحالم واللعوب والمعاصر في «نور» والجانب الملحمي التاريخي العربي البدَوي في «المهد»، على سبيل المثال). وهنا يمكن القول إنّ هذه الملامح في الموسيقى التصويرية أو لنقل «القواعد»، تكاد لا تغيب عن الأشرطة الموسيقية للأفلام الثمانية، مع اختلاف مدى قوّتها التعبيرية، هنا وهناك، بين الجيد والممتاز، ومع اختلاف استقلالية وتماسك كل قطعة على حدة، بين التي «تموت» خارج إطار الفيلم والتي يمكن أن تُسمَع كموسيقى قائمة بحد ذاتها، جميلة ومتينة، وهي ربّما السبب وراء فكرة الإصدار من الأساس، لأنها ببساطة لا تستحق أن تبقى أسيرة فيلم ولا أسيرة فرصة، غير متاحة دائماً، لمشاهدته. وللوصول إلى هذه النتائج، قليلاً ما وضع توفيق فرّوخ نفسه كعازف ساكسوفون في تصرّف المشروع (باستثناء «فلافل» لميشال كمّون و«سُلَّم إلى دمشق» لمحمد ملص)، في حين وضع مجهوده الأساسي فيها كمؤلّف، مستعيناً بالنيوكلاسيك، الذي يصل إلى حدود بيتهوفن، والكلاسيك المعاصر (في «الأرض المجهولة» في الحالتَين) والشرقي (في جزء من «المهد» وبعض المحطات في غيره) والـ«أمبينت» (بالأخص في «إنسان شريف») والفيوجن، وغير ذلك من تصنيفات لا معنى كبيراً لها ولا أهمية موسيقية إلا لتوضيح الصورة قليلاً للقارئ.
هذه العموميات مبنية على كمية كبيرة من الملاحظات الخاصة بكل مقطوعة في الأشرطة الثمانية للأفلام التالية: «نور»، «خادمات للبيع»، «الأرض المجهولة»، «المهد»، «فلافل»، «إنسان شريف»، «سُلَّم إلى دمشق» و«آن الأوان». بالتالي، نترك لمن سيستمع إلى جديد توفيق فرّوخ مهمّة «التوسّع» في هذه النقاط، إلّا إذا أحبّ اختيار مقاربة أخرى للألبوم، وهي السمع من دون التفكير في كل ما تقدّم... وهذا ما نشجّع عليه، بالتأكيد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا