لا يمكن فصل عودة نغمة الفيدرالية، على لسان بعض الزعامات الطائفية اللبنانية، عن تفاقم الأزمة العامة للنظام اللبناني. خيال هذه الزعامات محدود جداً في الحقيقة، وهي تلجأ باستمرار إلى التكتيكات المكشوفة نفسها، أي التسعير الطائفي وإلقاء اللائمة على «الآخرين»، لتفسير ما وصلت إليه أوضاع البلاد من انهيار كامل، منعاً لمحاسبتها وأمثالها من الزعامات الطائفية على هذا الأمر، والقطع مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي أنتجت الوضع الراهن. حالة الحرب الأهلية الباردة وإعادة إنتاج الانقسام الأهلي الدائم هما شرطان لبقاء هذه الزعامات في مواقعها منذ نشأة الكيان اللبناني. لم تمنع هذه الوقائع العنيدة الأب يواكيم مبارك، من التمسّك بفكرة أخرى عن لبنان الممكن، استمدّها من عمق إيمانه بدين المسيح، وقناعته بأن المشتركات الكبرى بينه وبين الإسلام، وأوّلها الانحياز للإنسان، ولحقّه بحياة كريمة، تشكل أساساً صلباً للإصلاح الداخلي، والمساهمة في نهضة العرب، وفي النضال من أجل عالم أكثر عدلاً. فابن قرية كفرصغاب، وسليل عائلة كهنة خدموا الرعية في وادي قاديشا، اندرج عملياً من خلال أعماله الفكرية ومواقفه السياسية، في التيار الثوري الذي عرّف المسيحية على أنها الانحياز للإنسان عامة، وللفقراء خاصة، أي لاهوت التحرير الذي لعب دوراً مركزياً في المعركة ضد الاستعمار والاستغلال والفصل العنصري والاستبداد، في بلدان الجنوب، خلال ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته.بعد إتمام علومه في إكليريكية غزير المارونية، وفي جامعة القديس يوسف، سافر إلى فرنسا لإكمال دراسته الجامعية، وقدم أطروحته «ابراهيم في القرآن الكريم» لنيل الدكتوراه في سنة 1951. والتحق بعدها، كباحث، بالمركز الوطني للدراسات العلمية. ورغم أن إنتاجه الفكري الغزير تناول قضايا لاهوتية وفلسفية وتاريخية وسياسية متعددة، فإنّ اللافت هو إيلاؤه أهمية مركزية للإسلام، عقيدةً وتاريخاً وثقافةً، في إسهاماته. ولا شك في أن اعتقاده بوجود «جذور ابراهيمية مشتركة» الذي نجم عنه علاقة حميمة بين الإسلام والمسيحية، هو بين دوافع هذا الاهتمام. للأب مبارك عشرات المؤلفات والمقالات عن الإسلام، هدفت جميعها إلى تعريف الجمهور الناطق باللغة الفرنسية مجدداً بهذا الدين، وبتاريخ الشعوب التي تعتنقه وثقافتها. لقد فعل ذلك بتمايز وصل إلى حدّ التناقض مع أعمال غالبية المستشرقين، ومقارباتهم المشحونة بالعداء والأفكار النمطية والمسبقة... تلك التي «اخترعت شرقاً من منظور الغرب» كما يقول إدوارد سعيد. خاض مبارك من خلال جهده العلمي معركة فكرية - سياسية ضد الأطروحات «العلمية» التي شكلت مرتكزاً أيديولوجياً للاستعمار ولرسالته «الحضارية» في مواجهة الإسلام «دين الانغلاق والتعصب واللاعقلانية».
إن مراجعة آراء وكتابات كبار المفكرين الفرنسيين حول الإسلام، كإرنست رينان وألكسي دو توكفيل وجول فيري، تكفي للتثبّت من هيمنة مثل هذه الأطروحات. وما يزيد من أهمية جهد الأب مبارك، تزامنه مع احتدام الصراع بين الاستعمار الفرنسي وحركات التحرّر في المنطقة العربية، خصوصاً في بلدان المغرب العربي، وما رافقه من تعبئة أيديولوجية معادية للعرب والمسلمين. ولعلّ الإسلاموفوبيا، أي كراهية الإسلام، المتفشّية في الغرب حالياً، تمثّل امتداداً لها. إضافة إلى دوره المذكور، دافع الأب مبارك عن القضية الفلسطينية، وعمل على دحض حجج الصهاينة وأصدقائهم، وسرديتهم القائمة على تأويل النص التوراتي لإسباغ الشرعية التاريخية على المشروع الاستيطاني الصهيوني.
في محاضرة ألقاها في الندوة اللبنانية بتاريخ 31 أيار 1965، اعتبر الأب مبارك أن «لبناناً يريد نفسه مسيحياً صرفاً، أو بأغلبية مسيحية، يفقد مبرر وجوده، ويحكم على نفسه، كما فعلت إسرائيل، وأن لبناناً يريد نفسه إسلامياً صرفاً أو بأغلبية إسلامية، يحكم على نفسه أيضاً... لم تحقق المسيحية ذاتها إلّا يوم خرجت من البيئة اليهودية في «أورشليم»، تلك البيئة المغلقة على نفسها قومياً وقانونياً وثقافياً، لتستقر في أنطاكية. ففي أنطاكية حمل رسل المسيح للمرة الأولى، اسم مسيحيين، وقد أصبحوا حقاً كذلك بهذا الانتقال المحرّر والمسكوني العالي... إن بدء العهد الإسلامي يؤرَّخ بهجرة النبي لا بولادته. لم ذلك؟ لأنه يوم قطع محمد روابط الدم والقبيلة ليحيك روابط جديدة، وميثاق شرف وحق لأناس غرباء عن وطنه، يومذاك برز إلى الوجود مجتمع جديد وولد الإسلام». ويضيف الأب مبارك: «وهذا بالضبط ما نفعله عندما نتواعد نحن، مسيحيين ومسلمين من كل ملة، على التلاقي في لبنان، فنقر إذ ذاك بأن مصيرنا ليس في الانغلاق، بل في الانفتاح بعضنا على بعض، وبالتفاهم وتبادل التقدير، وخدمة سائر أبناء الإنسانية».
النظام اللبناني دخل في طور الاحتضار. هذا ما تشي به الأزمة المستفحلة حالياً، ويشي به الحديث المتكرر لبعضهم عن التقسيم باسم الفدرالية. إن بقاء لبنان بات مرتبطاً بتجديد يستلهم رؤية يواكيم مبارك.