ليست استعادة أنطون سعادة (1 آذار/ مارس 1904 - 8 تموز/ يوليو 1949)، في سبعين استشهاده التي مرّت قبل أيام، إحياءً لذكرى عابرة. فسعادة ليس فقط مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يعجز، منذ سنوات، عن الخروج من أزماته، رغم الدور الكبير الذي أدّاه في معارك الدفاع عن البلاد، ولا هي مناسبة للاحتفاء به مفكراً مرّ الزمن على إسهاماته. نستعيد أنطون سعادة لأنه راهنٌ أكثر من أيّ وقت مضى.يمكن قول الكثير في أفكاره. الكثير، نقداً، بالطبع. عقيدته التي يلفّها قوميون بطوق من القداسة الدينية تحتاج لإعادة قراءة وتطوير يُخرجها من الجمود الذي ركنتها فيه مؤسسات الحزب. لكن ذلك لا يُفقد سعادة راهنيته المتصلة تحديداً بثلاث من ميزات أفكاره:
- وعيه، باكراً للخطر الصهيوني الذي لا يزال يهدّد بلادنا، تماماً كما قبل سبعين عاماً. وعيه، أيضاً، ومنذ ما قبل النكبة، لقصور الدول العربية (وتقصيرها وتآمرها) في مواجهة ما كان يُعدّ لفلسطين. وبصرف النظر عن الأسباب التي رآها للقصور والتقصير، إلا أنه كان رؤيوياً في اكتشافه الدور الخبيث للسعودية في ما يخص قضية فلسطين، وتحديداً لجهة انقياد مملكة ابن سعود للولايات المتحدة الأميركية. ما قاله الزعيم الشهيد عن السعودية قبل النكبة بأشهر، يصحّ فيها أيضاً وهي تسهم اليوم في الإعداد لاستكمال النكبة بـ«صفقة القرن». (للمفارقة، حرّضت السعودية، بالمال، دمشق على تسليم سعادة إلى بيروت لإعدامه - على ما يرجّح فواز طرابلسي في تأريخه لتلك الحقبة).
ـ علمانيته الرحبة، في زمننا، زمن صعود الهويات المذهبية الضيقة، و-للأسف - تجذّرها. العلمانية التي كاد أن يجعل منها ديناً قائماً بذاته. وهي، على أقل تقدير، ركن ثابت من أركان عقيدته، فلا تستقيم الأخيرة من دونها.
- وحدويته في زمن التقسيم. إيمانه بسوريا، كأمة تامة، لم يكن نابعاً من أن الحدود كانت في زمنه حديثة ويسهل تخيّل محوها. ولا هو مبنيّ حصراً على فكرة «تفوق السوريين العقلي على من جاورهم وعلى غيرهم»، التي نظّر لها (هذه، مثلاً، من «هناته»). كان سعادة يرى أيضاً «مصلحة قومية» في اتحاد ما شتّته الاستعمار الغربي إثر انهيار السلطنة العثمانية. وهذه المصلحة هي ما نفتقد التنظير له اليوم، لمواجهة سياسات «القُطر أولاً» التي ما انفكّت تظهر كل حين منذ أن رفع أنور السادات شعار «مصر أولاً». سوريا سعادة، أو دول المشرق العربي، بحاجة إلى من يرفع لواء الوحدة، شعاراً وبرنامج عمل، في مواجهة مشروع التفتيت الذي اشتدّ عوده منذ الغزو الأميركي للعراق.
لهذه الأسباب، ولغيرها، لا يزال سعادة راهناً. فهذه المسائل هي هي، وما فتئت تُشتّت شمل البلاد التي عقَمَت - على مدى قرن من الزمن - عن مشروع استقلالي قابل للحياة يؤمّن عيشاً كريماً لأهلها.
عدا عن ذلك، يبقى سعادة حاضراً بفدائيته. كآلهة «أساطيره» السورية، مضى إلى موته شهيداً، بمهابة وعِز. حقّه على البلاد التي استشهد دفاعاً عن وحدتها وقوتها واستقلالها، أن تعتذر عن جريمة «الجمهوريتين» (سوريا ولبنان). لطخة عار على جبين الكيانَين أن لا تُدان، ولو بعد سبعة عقود، محاكمة صورية أدّت إلى قتل أنطون سعادة، الرجل الذي أعدِم من دون أن يحني رأسه أمام السيّاف.