ما رأيكما لو انضمّ انسي الحاج الى هذه المغامرة؟ السؤال كان لزياد الرحباني. لم يكن جوزيف سماحة قد استقال من «السفير» بعد. كان البحث تجاوز دائرة الفريق الاساسي المفترض ان يكون معنا. لكن، زياد، الذي انضم الينا بطريقة توحي كأنه كان في اجازة، تحدّث امامنا عن شيء من أسرار الرحابنة. كان شديد المباشرة وهو يشير الى انسي الحاج، الشاعر والاديب، لا أنسي الصحافي. لم أكن، يومها، أساجل في ما يقوله جوزيف بأمر من هذا النوع. فقط اهتممت لارى اية معايير سيلجأ الى استخدامها في الجواب على سؤال زياد. لكن جوزيف، قال سريعاً: لنجلس معه، نخبره عن مشروعنا، ثم نسمع رأيه، وبعدها نقدر واياه على اتخاذ القرار.

في جلسة مسائية قرب منزله في ساسين، قابلنا أنسي بضحكة لا تشبه الصورة النمطية التي كانت تسكن العقل والقلب معاً. كان، بالنسبة لي، خطأ شائعاً. لم يكن مهماً، بالنسبة لي، ما الذي يفعله في نهاراته ولياليه. بل كان يؤرّقني كيف لرجل عجن نفسه مع «النهار» ان يكون معنا في تجربة ومغامرة، احد اهدافها تعرية مدرسة الصحافة التقليدية في لبنان، وعلى رأسها «النهار».
خلال اقل من ساعة، شرح انسي رأيه في أمور كثيرة تهمّنا. قال رأيه في جوزيف. كان الامر بمثابة الصدمة. قال له: أنت اهم كاتب مقالة يومية في عالمنا العربي. سأله بشغف: من اين لك القدرة على التجديد كل يوم؟ من اين لك القدرة على مفاجأة القارئ كل يوم؟
هرب جوزيف، كعادته، وسأل انسي رأيه في الصحافة اللبنانية والعربية اليوم. وفي دقائق سريعة. اظهر انسي اعجابه بمن كان جوزيف يرى فيهم مستقبل الصحافة اللبنانية. قال له: ما رأيك في جريدة تتجاهل الخبر اليومي الذي يُفرض علينا باسم المناصب والمواقع والوكالات؟ رد انسي: هل تجرؤون على فعل ذلك؟ هل سيقبل من يموّلكم ان تتجاهلوه، لا ان تحافظوا على مصالحه، هل يتحمّل منكم ألا تنشروا اخباره واستقبالاته وصوره؟
لم تنته الجلسة من دون نقاش سياسي مباشر. وجد انسي طريقته في الحديث عن موقعه مما يجري اليوم في لبنان والعالم العربي والعالم. روى لنا قصة اخراجه، لا خروجه، من «النهار» عام 2003. قال بحرقة وقساوة: كيف لي ان اقبل تبرير جريمة اميركا في العراق، ولأجل من؟ لكن حرقته الاكبر، في انه لم يكن يتصور انه سيتعذب كثيراً قبل ان يجد منبراً ينشر فيه اسباب تركه «النهار»؟
حسم جوزيف الامر سريعاً، وقال له كمن سبق ان عرض عليه التعاون وسمع قبولاً منه: هل ستكتب؟
ضحك انسي، وهو يشرح تعبه من هذا السؤال. وانه لا يعرف ان كان هناك من اشياء ستحفّزه على الكتابة. لكنه اضاف: لدي مشروعي «خواتم – 3» وهو قيد الانجاز. سأله جوزيف ان كان بالامكان نشره على حلقات في «الاخبار». وافق انسي فورا. وقال: ربما، لا اعلم، ربما اكتب.
في طريق العودة الى المنزل، قال جوزيف لزياد: أنسي مفاجأة ايجابية، وسيضيف كثيرا لـ «الاخبار».

■ ■ ■


لم يكن انسي مرتاحاً كثيراً لوضع «الاخبار» في العامين الاخيرين. زادت ملاحظاته على التحرير. كان قلقاً من تراجع منسوب النقد. كان هاجسه حماية الهامش. وكان ألمه كبيراً مما يجري في البلاد وحولها. قال لي مراراً: لم يعد في البلاد من يحظى بالاحترام. وفي المنطقة ترانا نضيع بين استبداديين وبين ثوار فاشلين بلا اخلاق. وما اخشاه على لبنان، ليس مزيدا من تسلط السارقين على الحكم فيه، او حتى على الناس، بل ان ينجح هؤلاء في سرقة ما تبقى من هواء الحرية.
قبل اشهر قليلة. تلقى انسي عرضاً للكتابة في جريدة تموّلها قطر. لم يتحدث عن الامر الا بعدما اجابهم. جاء الى المكتب على عادته في المساء. وكأنه كان يريد ان يسمع كثيرون موقفه. اختار لحظة وجود عدد من الزملاء، وقال على طريقته الساخرة : قلت لهم، دعوني في جريدة الممانعة الشيعية، بدل العمل في جريدة الثورة الوهابية!
أنسي صار يتذكر الله والمسيح والعذراء. كان قاسياً في سخريته من كل شيء. من الاحزاب والاديان والسلطات والمعارضات والاحتلالات والمقاومات. ومن قهر العالم الغني على تخلف الفقراء. وكان كثير الاهتمام بعائلته الصغيرة. صار يتحدث عنها اكثر بكثير من السابق. كأنه لم يعد يجد غيرها الى جانبه، او لم يعد غيرها ما يعنيه في هذه الحياة. هو لم يرغب يوما في التحدث عن مرضه. وكان سخطه على الطبيب اكثر من سخطه على الداء نفسه. وعندما اراد له الطبيب التفلّت من وصفته، رفض انسي الاكل والشراب.
في الجريدة، كما في مقهى البناء، كما في لياليه، وفي جمعاته، ظل انسي يترك المكان الاكثر دفئا للمرأة. لاي انثى حق اقتحامه في اي وقت. كان يشعر بقدرة هائلة على جذب النساء صوبه. صوب ما يقوله، او يحكيه، او ينصح به، لكنه كان يعرف السر: كان يحث المرأة، مراهقة او ناضجة، زوجة او أمّاً او متفلّتة من العائلة، كان يحثهن على التمرد، على مساكنة الحرية في كل شيء. على الاهتمام بأجسادهن، وبأعمالهن، وبثقافتهن، وعلى التدرب يوميا لقهر سلطة الرجل. كانت المرأة المشتهاة، هي الاكثر قربا من قلبه وعقله.

■ ■ ■


رحل انسي الحاج، الاسم الكبير لرجل عاش بساطة الحياة حتى لحظاته الاخيرة. رغب برحيل هادئ، صامت، بلا ضجيج كما كانت ايامه. وكانت حيرتي معه، وهو المستعد لكل شقاوة ولكل ما هو مختلف، في ان اتجرأ على مطالبته بمراجعة مواد، كتبت عنه بصفة الراحل. من كان يصدق ان انسي، يكتب قبل موته، مقدمة ملفّ يعد في رثائه!